قال ابن الجوزي : ومن لئلا يلحن وليورد الحديث على الصحة . العلوم التي تلزم صاحب الحديث معرفته للإعراب
كان يضرب ولده على اللحن ، انتهى كلامه ، وكذا قال ابن عمر : كان ابن عبد البر يضرب ولده على اللحن قال : وكتب ابن عمر إلى عمر أبي موسى رضي الله عنهما : أما بعد فتفقهوا في السنة وتعلموا العربية ، أما الأول فرواه عن أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس عن نافع إسناد جيد ، وروي الثاني عن ابن عمر ، عن عيسى بن يونس ثور عن يحيى بن سعد قال : كتب ، فذكره ، وهو منقطع . عمر
وروى عن ابن أبي شيبة أنه قال : تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة ، وإسناده ضعيف عمر
قال وقال ابن عبد البر : مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له . شعبة
وقال عبد الملك اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه . وقال ابن شبرمة إذا سرك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرا ، أو يصغر في عينك من كان فيها كبيرا ، فتعلم العربية فإنها تجرئك على المنطق وتدنيك من السلطان قال الشاعر :
اللحن يصلح من لسان الألكن والمرء تعظمه إذا لم يلحن ولحن الشريف محطة من قدره
فتراه يسقط من لحان الأعين وترى الدني إذا تكلم معربا
حاز النهاية باللسان المعلن وإذا طلبت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن
وذكر في مكان آخر أن قائل هذا لو كان مهتديا لقال : فأجلها منها مقيم الأدين وما قاله حق قال : وقالوا العربية تزيد في المروءة [ ص: 130 ] وقالوا من أحب أن يجد في نفسه الكبر فليتعلم النحو ، كذا قال وقال ابن عبد البر : ويروى أن أبو جعفر النحاس كان يتفقد ما يكتب به الكتاب ، فيسقط من لحن ، ويحط مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربية ، فكان الكتاب يثابرون على النحو لما كان الرؤساء يتفقدون هذا منهم ويقربون العلماء ، كما قال المأمون : جاءني رسول الفضل بن محمد الرشيد فنهضت ودخلت وسلمت عليه فأومأ بيده ، ومحمد عن يمينه عن يساره والمأمون بين يديه يطارحهم معاني القرآن والشعر ، فقال لي ، والكسائي الرشيد : كم اسم { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } ؟
فقلت : ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين ، اسم الله عز وجل ، والكاف الثانية اسم النبي صلى الله عليه وسلم والهاء مع الميم اسم الكفار ، قال الرشيد : كذا قال الرجل ، وأومأ بيده إلى ، ثم التفت إلى الكسائي محمد فقال أفهمت ؟ قال : نعم قال : فاردده علي إن كنت صادقا ، فرده على ما لفظت به ، فقال : أحسنت أمتع الله بك . ثم أقبل علي فقال من يقول :
نفلق هاما لم تنله أكفنا بأسيافنا هام الملوك القماقم
فقلت يا أمير المؤمنين قال : كيف يفلق هاما لم تنله كفه ؟ قلت : على التقديم والتأخير ، كأنه قال نفلق بأسيافنا من الملوك القماقم هاما لم تنله أكفنا على التعجب والاستفهام ، فقال أصبت ، ثم أقبل على الفرزدق فحادثه ساعة ثم التفت إلي فقال : أعندك مسألة ؟ قلت : نعم ، لصاحب هذا البيت قال : هات ، فقلت : الكسائي
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال الرشيد : أفادنا هذا الشيخ في هذه المسألة ؟ قالا نعم ، علمنا أن القمرين ههنا الشمس والقمر ، قالوا سيرة العمرين يريدون [ ص: 131 ] علي بن حمزة أبا بكر ، كما قيل : ما اطرد الأسودان ، يريدون الليل والنهار قلت : أزيد يا أمير المؤمنين في السؤال قال : زد قلت : فلم استحسنوا هذا قال : لما اجتمع شيئان من جنس واحد فكان أحدهما أشهر من الآخر غلب الأشهر ; لأن القمر أشهر عند وعمر العرب لأنسه وكثرة بروزهم فيه ومشاهدتهم إياه دون الشمس في أكثر الأوقات ، وتلك القصة في قولهم : العمران لطول خلافة وكثرة الفتوح فيها ، وكذلك الليل لأنهم فيه أفرغ ، وسمرهم فيه أكثر . عمر
قلت : أفيه يا أمير المؤمنين غير هذا ؟ قال : ما أعلمه ، ثم التفت إلى فقال : أتعرف في هذا غير ما قلناه مما أفدتناه ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، وهو وفاء المعنى ، فأمسك عني قليلا ثم قال : أتعرف فيه أنت أكثر من هذا قلت : نعم يا أمير المؤمنين بقيت الغاية التي افتخر بها قائل هذا الشعر قال قلت : الشمس أراد بها الكسائي إبراهيم الخليل ، والقمر ابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والنجوم أنت والخلفاء من آبائك ومن يكون من ولدك إلى يوم القيامة ، قال : فتهلل وجهه وقال : حسن والله ، والعلم كثير لا يحاط به ، ولعل هذا الشيخ لم يسمع هذا فيفيدناه ، وإن هذا العمري لأبلغ إلى غاية الفخر ، ثم رفع رأسه إلى فقال تحمل إلى منزل الشيخ عشرة آلاف درهم فتقدم بها من ساعته . الفضل بن الربيع
قال وغيره وممن امتنع من النحويين من ملازمة السلطان ، إجلالا للعلم وغنى نفس أبو جعفر النحاس الخليل بن أحمد وبكر بن محمد المازني .
وقال بعض العلماء : كان من الزهاد المنقطعين إلى العلم ، ومن خيار عباد الله المتقشفين في العبادة ، أرسل إليه الخليل سليمان بن حبيت المهلبي لما ولي ، فنثر بين يدي رسوله كثيرا وامتنع أن يأتيه وكتب إليه :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحا بنفسي إني لا أرى أحدا يموت هزلا ولا يبقى على حال
والرزق عن قدر لا الضعف ينقصه ولا يزيدن فيه حول محتال
والرزق يغشى أناسا لا طباخ لهم كالسيل يغشى أصول الدندن البالي [ ص: 132 ]
كل امرئ بسبيل الموت مرتهن فاعمل لبالك إني شاغل بالي
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وأما المازني ، فأشخصه إلى سر من رأى لأن جارية غنت وراء ستاره الواثق
أظليم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
قال المازني : قلت لابن قادم ولابن سعد ، لما كابرني : كيف تقول نفقتك دينارا أصلح من درهم ؟ فقال : دينارا قلت : كيف تقول : ضربك زيدا خير لك ؟ فنصب ، قلت : فرق بينهما فانقطع ، وكان ذلك عند وحضر الواثق فقال لي ابن السكيت هات مسألة فقلت الواثق : ليعقوب : { فأرسل معنا أخانا نكتل } .
ما وزنه من الفعل ؟ قال : نفعل ، قال : غلطت ، ثم قال لي : فسره ، فقلت : نكتل تقديره نفتعل نكتيل فانقلبت الياء ألفا لفتح ما قبلها ، فصار لفظها نكتال ، فأسكنت اللام للجزم لأنه جواب الأمر ، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فقال : هذا هو الجواب ، فلما خرجنا عاتبني الواثق يعقوب ، فقلت : والله ما قصدت تخطئتك ولكن كانت في نفسي هينة الجواب ، ولم أظن أنها تعزب عليك .
قال : وحضر يوما آخر واجتمع جماعة نحويي الكوفة فقال لي يا الواثق : مازني ، هات مسألة فقلت : ما تقولون في قول الله تعالى { وما كانت أمك بغيا } [ ص: 133 ]
ولم يقل : بغية وهي صفة لمؤنث فأجابوا بجوابات ليست مرضية ، فقال لي : هات الجواب ، فقلت : لو كانت بغي على تقدير فعيل بمعنى فاعلة لحقتها الهاء إذا لكانت مفعولة بمعنى : امرأة قتيل وكف خضيب ، وتقدير بغي ههنا ليس بفعيل إنما هو فعول ، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث نحو امرأة سكون وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرشاء ، وتقدير بغي بغوي قلبت الواو ياء ثم أدغمت الياء في الياء نحو سيد وميت ، فاستحسن الجواب ثم استأذنته في الخروج فقال : ألا أقمت عندنا : فقلت يا أمير المؤمنين إن لي بنية أشفق أغيب عنها قال : كأني بها قد قالت ما قالت ابنة الواثق الأعشى للأعشى :
أرانا إذا أضمرتك البلاد نجفى وتقطع منا الرحم
وقلت أنت :
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي يوما فإن بجنب المرء مضطجعا
قال : وفر أبو جعفر النحاس من أبو عمرو بن العلاء قال : فبينما أنا أسير إذ سمعت رجلا ينشد : الحجاج
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
قد مات فلم أدر بأيهما كنت أشد فرحا ؟ أبموت الحجاج أو قوله : فرجة قال الحجاج أبو جعفر وعبيد الله بن إسحاق أحد القراء والنحويين : كان ممتنع الجانب قليل الغشيان للسلطان حتى ذكره وعيره الكبر وهجاه . الفرزدق
قال أبو جعفر ومن النحويين من سارع إلى السلاطين ولم يحمد العاقبة ، منهم سيبويه كما حدثنا وابن السكيت حدثنا علي بن سليمان أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد ، قالا لما ورد إلى سيبويه العراق شق أمره على [ ص: 134 ] ، فأتى الكسائي جعفر بن يحيى فقال : أنا وليكما وصاحبكما ، وهذا الرجل قد قدم ليذهب محلي ، قالا فاحتمل لنفسك فسنجمع بينكما ، فجمعا عند والفضل بن يحيى البرامكة وحضر وحده ، وحضر سيبويه ومعه الكسائي الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه ، فسألوه كيف تقول : كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور ، فإذا هو هي أو هو إياها ؟
فقال : أقول : فإذا هو هي ، فقال له : أخطأت ولحنت ، فقال يحيى : هذا موضع مشكل فمن يحكم بينكم ؟ قالوا : هؤلاء الأعراب بالباب ، فأدخل أبو الجراح وجماعة معه فسئلوا فقالوا نقول : فإذا هو إياها فانصرم المجلس على أن قد أخطأ وحكم عليه ، فأعطاه سيبويه البرامكة وأخذ له من الرشيد وبعث به إلى بلدة فيقال : إنه ما لبث إلا يسيرا ثم مات كمدا قال : وأصحاب علي بن سليمان إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب على ما قال سيبويه وهو فإذا هو هي وهذا موضع الرفع . سيبويه ،
قال أبو جعفر : وأما فحدثني ابن السكيت محمد بن الحسين بن الحسن حدثني عبد الله بن عبد العزيز النحوي قال قال لي يعقوب بن السكيت : أريد أشاورك في شيء قلت : قل قال : إن قد أدناني وقربني وندبني إلى منادمته فما ترى ؟ قلت : لا تفعل وكرهت له النهاية ، فدافع به المتوكل يعقوب ثم تطلعت نفسه إليه فشاورني ، فقلت : يا أخي أحذرك على نفسك ، فإنه سلطان وأكره أن تزل بشيء ، فحمله حب ذلك على أن خالفني فقتله في أول مرة لشيء جرى بينه وبينه في أمر الحسن عليهما الصلاة والسلام ، وكان أوله مزاحا وكان والحسين يتشيع فقتله . ابن السكيت
قال أبو جعفر : ومن النحويين من قرب من السلاطين فحظي عندهم ، منهم قال علي بن حمزة : أقام يونس بن حبيب الكسائي بالبصرة عشرين سنة ثم رحل إلى الكوفة ، فأخذ عن أعراب ليسوا بفصحاء فأفسد الحق بالباطل ، فقد صار النحو كله من البصرة ; لأن منهم تعلم ، ثم قرأ على الكسائي الأخفش كتاب ويحكى أنه دفع إليه مائة دينار . سيبويه ،
قال أبو جعفر : [ ص: 135 ] وليس أحد من الرؤساء المتقدمين في النحو إلا بصري ، حتى إنهم حجج في اللغة يؤخذ عنهم لفصاحتهم ، وكانوا لا يأخذون إلا عن الفصحاء من الأعراب ، ولهم السبق والتقديم ، منهم أبو الأسود وأبو عمرو ، وسمعت يقول : ساءني أن علي بن سليمان خلفا البزار على جلالته ومحله ترك ، وهو أستاذه فلم يرو عنه حرفا واحدا ، مع حاجته إليه في تصنيفه كتاب القراءات . الكسائي
قال أبو جعفر : ثم عرفني غير أبي الحسن أنه إنما ترك الرواية عنه لأنه سمعه يقول : قال لي سيدي الرشيد ، فتركه وقال : إن إنسانا مقدار الدنيا عنده أن يجعل من أجلها هذا الإجلال ، لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم ، قال أبو جعفر : وقد كان متصلا الأصمعي بالرشيد وكان يقدمه ويتكلم في مجلسه ، وقد ذكر أبو جعفر القاسم بن مخيمرة أنه قال : النحو أوله شغل ، وآخره بغي ، ورد أبو جعفر على ذلك ، وسيق في فصول السلام والكلام في الكتابة ، ويأتي بعد نصف كراسة أيضا .
وذكر أبو جعفر في باب الاصطلاح المحدث الذي استعماله خطأ قال : واستعملوا يفعل ذلك بغير لام الأمر ، وهذا من الخطأ القبيح الذي يقلب معه المعنى فيصير خبرا ، والمراد الأمر ، وإن جزم أيضا فخطأ ; لأن الأمر لا يكون بغير لام إلا في شذوذ واضطرار ، على أنه حكي عن أنه لا يجوز عنده ولا عند أصحابه حذف اللام من الأمر للغائب ; لأن الحروف لا تضمر ; ولأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء ، وأن ما أنشد فيه من الشعر ليس بحجة ; لأنه لا يعرف قائله ، وهو : علي بن سليمان
محمد تفد نفسك كل نفس
كذا قال وقد قال الله تعالى : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم } .
قيل هو خبر من الله عن حالهم وقال : إنه أمر من الله لهم [ ص: 136 ] بالحذر ، فتقديره ليحذر المنافقون قال الزجاج : والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر فيقولون : يرحم الله المؤمن ويعذب الكافر ، يريدون ليرحم ويعذب فيسقطون اللام ويجرونه مجرى الخبر في الرفع ، وهم لا ينوون إلا الدعاء ، والدعاء مضارع للأمر . وأما الجزم بلام مقدرة فيجوز كثيرا مطردا بعد أمر كقوله تعالى { ابن الأنباري قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } .
والأشهر أنه جواب قل ، والتقدير : قل لهم أقيموا الصلاة يقيموا ، أي إن تقل لهم يقيموا . ورده قوم بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم لا يوجب أن يقيموا ، واختار ابن مالك هذا الرد ، ولم يره لأنه لم يرد بالعباد الكفار ، بل المؤمنين ، يدل عليه قوله { أبو البقاء ; لعبادي الذين آمنوا } وإذا أمرهم الرسول قاموا .
وقيل : يقيموا جواب أقيموا المحذوفة أي : أن يقيموا ، يقيموا ورد بوجوب مخالفة جواب الشرط له في الفعل والفاعل أو فيهما ، فلا يجوز قم تقم ، وبأن المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا ، ويجوز الجزم فاللام الأمر مقدرة قليلا بعد قول بلا أمر ، ذكره ابن مالك ، ولا يجوز الجزم بها بلا أمر ولا قول ولا ضرورة ، والله أعلم .
وإنما ذكرت ذلك لكثرة كتابة " يعتمد ذلك " ونحوها وكثرة من لا يعرف إلا إنكاره فينكره ، ويوافقه عليه من لا يعلم ، والله سبحانه أعلم .