روى أن الخلال جاء إلى أحمد وعنده جماعة من وكيع الكوفيين فجلس بين يديه من أدبه وتواضعه . فقيل يا أبا عبد الله إن الشيخ ليكرمك فما لك لا تتكلم ؟ فقال : وإن كان يكرمني فينبغي لي أن أجله وقال : ما استأذنت قط على محدث كنت أنتظر ، حتى يخرج إلي ، وتأولت قوله تعالى : { أبو عبيد القاسم بن سلام ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } .
وقال المروذي : كان أبو عبد الله لا يجهل ، وإن جهل عليه احتمل وحلم ويقول : يكفيني الله ولم يكن بالحقود ولا العجول ، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله إلى عمه ولا يغضب لعمه ويلقاهم بما يعرفونه من الكرامة وكان أبو عبد الله كثير التواضع يحب الفقراء ، لم أر الفقير في مجلس أحد أعز منه في مجلسه ، مائل إليهم مقصر عن أهل الدنيا تعلوه السكينة والوقار ، إذا جلس في مجلسه بعد العصر لم يتكلم حتى يسأل ، وإذا خرج إلى مجلسه لم يتصدر ، يقعد حيث انتهى به المجلس وكان لا يقطن الأماكن ويكره إيطانها وكان إذا انتهى إلى مجلس قوم جلس حيث انتهى به المجلس ، وصحبته في السفر والحضر .
وكان حسن الخلق دائم البشر لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ وكان يحب في الله ويبغض في الله وكان إذا أحب رجلا أحب له ما يحب لنفسه وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه له أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم أو إثم أو مكروه إن كان منه وكان إذا [ ص: 6 ] بلغه عن رجل صلاح أو زهد أو اتباع الأثر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة وكان رجلا وطيئا إذا كان حديث لا يرضاه اضطرب لذلك وتبين التغيير في وجهه غضبا لله ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها فإذا كان في أمر من الدين اشتد غضبه له وكان أبو عبد الله حسن الجوار يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجيران .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن يونس رأيت رضي الله عنه وقد صلى الغداة فدخل منزله وقال لا تتبعوني مرة أخرى وكان يمشي وحده متواضعا وقال أحمد بن حنبل ابن هانئ رأيت أبا عبد الله إذا لقي امرأتين في الطريق وكان طريقه بينهما وقف ولم يمر حتى يجوزا .
وعن أسيد الأنصاري أنه { } رواه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به أبو داود من رواية شداد بن أبي عمرو بن حماش تفرد عنه أبو اليمان الرحال المدني وقد وثقه قال في النهاية هو أن يركبن حقها وهو وسطها يقال سقط على حاق القفا وحقه . وعن ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ابن عمر } رواه نهى أن يمشي الرجل بين المرأتين أبو داود من رواية والخلال داود بن أبي صالح قال أبو زرعة لا أعرفه إلا بهذا الخبر ، وهو منكر وقال لا يتابع عليه البخاري
وقال كان إبراهيم الحربي كأنه رجل قد وفق للأدب ، وسدد بالحلم ، وملئ بالعلم ، أتاه رجل يوما فقال عندك كتاب زندقة ؟ فسكت ساعة ثم قال : إنما يحرز المؤمن قبره . أحمد بن حنبل
وقال ثنا الخلال إسحاق بن إبراهيم يعني المعروف بلؤلؤ قال حضر مجلس [ ص: 7 ] أبي عبد الله كبش الزنادقة فقلت له أي عدو الله أنت في مجلس أبي عبد الله ما تصنع ؟ فسمعني فقال مالك ؟ فقلت هذا عدو الله كبش الزنادقة قد حضر المجلس ، فقال من أمركم بهذا عمن أخذتم هذا ؟ دعوا الناس يأخذون العلم وينصرفون لعل الله ينفعهم به . ذكره أحمد ابن الأخضر في ترجمته وقد تقدم ذكره .
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي سمعت جدي يقول : كان أبو عبد الله من أحيا الناس ، وأكرمهم نفسا وأحسنهم عشرة وأدبا كثير الإطراق والغض ، معرضا عن القبيح واللغو ، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث والرجال والطرق وذكر الصالحين والزهاد ، في وقار وسكون ولفظ حسن ، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه وكان يتواضع تواضعا شديدا ، وكانوا يكرمونه ويعظمونه ويحبونه .
وقال : كنا في مجلس الطبراني أبي موسى بشر بن موسى يعني ابن صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي ومعنا الفقيه القاضي فخاضوا في ذكر أبو العباس بن سريج محمد بن جرير الطبري وإنه لم يدخل ذكر في كتابه الذي ألفه في اختلاف الفقهاء . فقال أحمد بن حنبل وهل أصول الفقه إلا ما كان يحسنه أبو العباس بن سريج ؟ حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعرفة بسنته . أحمد بن حنبل
واختلاف الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وقال الحسن بن أحمد بن الليث الرازي كنت في مجلس فقام إليه رجل من أهل الرأي يقال له أبي عبد الله أحمد بن حنبل بشر ، فقال يا أبا عبد الله عندنا شاب بالري يقال له أبو زرعة نكتب عنه ؟ فنظر إليه كالمنكر لقوله شاب فقال : نعم الثقة المأمون أعلى الله كعبه ، نصره الله على أعدائه . أحمد
فلما قدمت الري أخبرت أبا زرعة فاستعبر وقال : والله إني لأكون في الأمر العظيم من أذى الجهمية فأتوقع الفرج بدعاء أبي عبد الله .
وقال المروذي سمعت أبا عبد الله يقول : قد جاءني أبو علي بن يحيى بن خاقان فقال لي : إن كتابا جاء فيه : إن أمير المؤمنين يعني يقرئك [ ص: 8 ] السلام ويقول لك لو سلم أحد من الناس لسلمت أنت ، ههنا رجل قد رفع عليك وهو في أيدينا محبوس رفع عليك أن علويا قد توجه من أرض المتوكل خراسان وقد بعثت برجل من أصحابك يتلقاه فإن شئت ضربته وإن شئت حبسته ، وإن شئت بعثته إليك قال أبو عبد الله فقلت له ما أعرف مما قال شيئا وأرى أن تطلقوه ولا تعرضوا له .
وقال لما سير عامر بن عبد قيس إلى الشام اجتمعوا عليه وحوله بالمربد فقال : إني داع فأمنوا ثم قال اللهم من سعى لي فأكثر ماله وولده وأطل عمره واجعله موطأ العقبين .
وقال المروذي أخبرت أبا عبد الله عن رجل سفيه يتكلم ويؤذي قال لا تعرضوا له إنه من لم يقر بقليل ما يأتي به السفيه أقر بالكثير .
وروى عن الخلال أبي جعفر الخطمي عن جده عمرو بن حبيب وكانت له صحبة أنه أوصى بنيه فقال إياكم ومجالسة السفهاء فإن مجالستهم داء وإنه من لم يقر بقليل ما يأتي به السفيه يقر بالكثير قال ابن الجوزي قالت الحكماء السفه نباح الإنسان .
وقال الشاعر :
ومن يعض الكلب إن عضا
وأنت ترى السبع إذا مر به السباع في السوق كيف تنبحه الكلاب وتقرب منه ولا يلتفت ولا يعدها شيئا إذ لو التفت كان نظيرا ، ومتى أمسك عن الجاهل عاد ما عنده من العقل موبخا على قبح ما أتى به ، وأقبل عليه الخلق لائمين له على سوء أدبه في حق من لا يجيبه وقد قال الشاعر :وأغيظ من ناداك من لا تجيبه
وما ندم حليم ولا ساكت وإنما يندم المقدم على المقابلة والناطق فإن [ ص: 9 ] شئت فاحتسب سكوتك عن السفيه أجرا لك ، وإن شئت فاعدده احترازا من أن تقع في إثم ، وإن شئت كان احتقارا له ، وإن شئت كان سكوتك سببا لمعاونة الناس لك ، وإن تلمحت القدر علمت أنه ما يسلط إلا مسلط فرأيت الفعل من غيره إما عقوبة وإما مثوبة .
وروى أبو داود حدثنا عيسى بن حماد أنبأنا عن الليث سعيد المقبري عن بشر بن المحرز عن أنه قال : { سعيد بن المسيب أبي بكر ، فآذاه فصمت عنه أبو بكر ، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر ، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر ، فقال أبو بكر أوجدت علي يا رسول الله ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم نزل ملك من السماء يكذبه لما قال لك فلما انتصرت وقع الشيطان ، فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان } ثنا بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل في ثنا عبد الأعلى بن حماد سفيان عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أن رجلا كان يسب أبي هريرة أبا بكر وساق نحوه . قال أبو داود وكذلك رواه عن صفوان بن عيسى ابن عجلان كما قال سفيان إسناد جيد والذي قبله من مراسيل سعيد بن المسيب وبشير تفرد عنه . ثم روى المقبري أبو داود في هذا الباب وهو باب الانتصار عن عبيد بن معاذ والقواريري عن ثنا معاذ بن معاذ ابن عون قال : كنت أسأل عن الانتصار : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } . فحدثني علي بن يزيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن عون : وزعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين قالت : قالت أم المؤمنين { فجعل يصنع شيئا بيده حتى فطنته لها فأمسك فأقبلت زينب بنت جحش زينب تفحم فأبت أن تنتهي فقال لعائشة سبيها فغلبتها فانطلقت لعائشة زينب إلى فقالت : إن علي [ ص: 10 ] وقعت بكم فجاءت عائشة فقال لها : إنها حبة أبيك ورب فاطمة الكعبة فانصرف فقالت لهم : إني قلت كذا وكذا ، فقال لي : كذا وكذا . قالت : وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في ذلك علي } دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا أم محمد تفرد عنها علي بن زيد حديثه حسن وعلي ، ولأبي داود بإسناد حسن من حديث جابر بن سليم { } وإن امرؤ شتمك أو عيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، يكن وبال ذلك عليه هذا المعنى وفيه { ولأحمد } . فيكون أجره لك ووزره عليه
وروى حدثنا أحمد أسود بن عامر ثنا أبو بكر عن عن الأعمش أبي خالد الوالبي عن قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { النعمان بن مقرن المزني } وكلهم ثقات وسب رجل رجلا عنده فجعل الرجل المسبوب يقول : عليك السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن ملكا بينكما يذب عنك ، كلما شتمك هذا قال له بك أنت وأنت أحق به ، وإذا قال له عليك السلام قال : لا بل أنت أحق به والظاهر أن وأبو بكر هو ابن عياش أبا خالد لم يدرك النعمان .
وروى في الأدب له عن أبو حفص العكبري رضي الله عنه قال : إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم من يتحر الخير يعطه ، ومن يتق الشر يوقه . أبي الدرداء
وروى أيضا عن عبد الملك بن أبجر قال انتهى الشعبي إلى رجلين وهما يغتابانه ويقعان فيه فقال :
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
وروى أيضا عن قال : ما بلغني من أحد مكروه إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل ، إن كان فوقي عرفت له قدره ، وإن كان نظيري تفضلت عليه ، وإن كان دوني لم أحفل به ، هذه سيرتي في نفسي فمن رغب عنها فأرض الله واسعة قال ابن عباس في الفنون وذكر قول المجنون : ابن عقيل
حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا هنيئا ومغفورا لليلى ذنوبها
قال الشاعر :
ما بقي عنك قوما أنت خائفهم كمثل دفعك جهالا بجهال
قعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا ووازن الشر مثقالا بمثقال
لعمرك ما سب الأمير عدوه ولكنما سب الأمير المبلغ
حلال لليلى شتمنا وانتقاصنا هنيئا ومغفورا لليلى ذنوبها
وقال في الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أثناء كلام له فبارك الله فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم وإنه لكما قال مطريه : أحمد
يرينك إما غاب عنك فإن دنا رأيت له وجها يسرك مقبلا
يعلم هذا الخلق ما شذ عنهم من الأدب المجهول كهفا ومعقلا
ويحسر في ذات الإله إذا رأى مضيما لأهل الحق لا يسأم البلى
وإخوانه الأدنون كل موفق بصير بأمر الله يسمو إلى العلى
وقال ثنا الخلال المروذي قال : قال لي ما كتبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم { أحمد أبا طيبة دينارا } ، فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت . احتجم وأعطى
وقال الحسين بن إسماعيل سمعت أبي يقول كان يجتمع في مجلس زهاء على خمسة آلاف ، أو يزيدون ، أقل من خمسمائة يكتبون ، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت . أحمد
وقال كنا نهاب أن نراد محمد بن مسلم في الشيء أو نحاجه في شيء من الأشياء ، يعني لجلالته ولهيبة الإسلام الذي رزقه . أحمد بن حنبل
وقال ما رأيت أحدا أنظف ثوبا ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبا وأشد بيانا من الميموني . أحمد بن حنبل
وقالت بنت فاطمة وقع الحريق في بيت أخي أحمد بن حنبل صالح وكان قد تزوج إلى قوم مياسير فحملوا إليه جهازا شبيها بأربعة آلاف دينار فأكلته النار فجعل صالح يقول ما غمني ما ذهب مني إلا ثوب أبي كان يصلى فيه أتبرك به وأصلي فيه ، قالت فطفئ الحريق ودخلوا فوجدوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حوله والثوب سالم قال ابن الجوزي : وهكذا بلغني عن [ ص: 13 ] قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم فاحترق ما فيها إلا كتاب فيه شيء بخط . أحمد
قال ابن الجوزي : ولما وقع الغرق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمسمائة وغرقت كتبي سلم لي مجلد فيه ورقتان من خط الإمام رحمه الله انتهى كلامه ، وفي قصيدة أحمد إسماعيل بن فلان الترمذي الذي أنشدها الإمام وهو في السجن في المحنة يقول فيها : أحمد بن حنبل
إذا ميز الأشياخ يوما وحصلوا من بين المشايخ جوهر فأحمد
فيا أيها الساعي ليدرك شأوه رويدك عن إدراكه ستقصر
حمى نفسه الدنيا وقد سنحت له فمنزله إلا من القوت مقفر
فإن يك في الدنيا مقلا فإنه من الأدب المحمود والعلم مكثر
وروي من غير طريق أن رضي الله عنه كتب من الشافعي مصر كتابا وأعطاه للربيع بن سلمان وقال : اذهب به إلى وأتني بالجواب فجاء به إليه فلما قرأه تغرغرت عيناه بالدموع وكان أبي عبد الله أحمد بن حنبل ذكر فيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له اكتب إلى الشافعي واقرأ عليه مني السلام وقل له إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن ولا تجبهم يرفع الله لك علما يوم القيامة ، فقال له أبي عبد الله أحمد بن حنبل الربيع البشارة فأعطاه قميصه الذي يلي جلده وجواب الكتاب ، فقال له أي شيء رفع إليك قال : القميص الذي يلي جلده قال ليس نفجعك به ، ولكن بله وادفع إلينا الماء حتى نشركك فيه . الشافعي
وفي بعض الطرق قال الربيع فغسلته وحملت ماءه إليه فتركه في قنينة وكنت أراه في كل يوم يأخذ منه فيمسح على وجهه تبركا رضي الله عنهما ، وقد قال بأحمد بن حنبل الشيخ تقي الدين كذبوا على الإمام حكايات في السنة والورع وذكره هذه الحكاية وحكاية امتناعه من الخبز الذي خبز في بيت ابنه أحمد صالح لما تولى القضاء ؟ ودفع إلى الإمام كتاب من رجل يسأله أن يدعو له فقال فإذا دعونا لهذا فنحن من يدعو لنا ؟ . أحمد