وأما وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق، أو بسلب الأمور الثبوتية عنه، ليس له حقيقة ولا ماهية، سواء مطلق الوجود، أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية، وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج. وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان. كون ذلك الموجود لا يكون إلا حيا عالما قادرا، أو لا يكون إلا [ ص: 143 ] موصوفا بصفات لازمة لذاته. ولا يكون إلا مباينا لمخلوقاته، فالعقل يوجب ذلك لواجب الوجود، لا نحيله عليه،
وهذا هو الواحد الذي قالوا: لا يصدر عنه إلا واحد. فإنه يمتنع تحققه في الخارج. وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع، هو أيضا مما لا يتحقق إلا في الأذهان.
ومتكلمو أهل الإثبات إذا قالوا: وجوده عين حقيقته أو ماهيته، أو ليس وجوده زائدا على ماهيته، فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي، الذي يقول: إنه وجود مطلق، فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج. ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم: إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج، وحقيقة السواد هو السواد الموجود في الخارج، ونحو ذلك.
ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج - الذي له حقيقة تخصه - وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة، فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة، كما أن الوجود المطلق كلي عام، والحقيقة المطلقة كلية عامة، ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما، ليست [ ص: 144 ] هي وجودا مطلقا، وإن كانت حقيقته نفس وجوده، فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن؟
بل وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره، ولا يعلم كنهه إلا هو. هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره، ولا يعلم كنهها إلا هو،
والناس إذا علموا وجودا مطلقا، أو حقيقة مطلقة، فذلك هو الكلي العام الشامل، ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج.