و [هذا] مثل ما ذكره في "الإبانة" قال: (حكى أبو نصر السجزي محمد بن عبد الله المغربي المالكي، وكان فقيها صالحا، عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة، عن أستاذه خلف المعلم، كان من فقهاء المالكيين، قال: أقام أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول) . الأشعري
قال (وهذا كلام خبير بمذهب أبو نصر: وغوره) . [ ص: 237 ] الأشعري
قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة، فإن مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة، كمسألة الرؤية والقرآن والصفات. ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة، مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع، فإن هذا أصل أصولهم، كما قد بينا كلام الأشعري أبي الحسين البصري وغيره في ذلك، وأن المعتزلة كلامهم في أصول الدين، هو هذا الأصل الذي ذكره الأصل الذي بنت عليه لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه، وجاء كثير من أتباع المتأخرين، كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها الأشعري، للمعتزلة - حقها من اللوازم، فوافقوا المعتزلة على موجبها، وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه، فنفوا الصفات الخبرية، ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن، الذي قالت به المعتزلة: إنه مخلوق، نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم.
والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية، وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء، يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل، ومكابرتهم للضروريات. [ ص: 238 ]
وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال، التي ذكر أنها مبتدعة في الإسلام، مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول، من قول الأشعري المعتزلة، كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة، لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق، لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر، فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة، والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة، فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك، فإنه كما أن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية، فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية.
ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه، فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب، فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد، ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل كتاب، وهؤلاء أهل أوثان، فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب، على من كان عنه أبعد، وأيضا فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع [ ص: 239 ] البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد، وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقا.
مثال ذلك: أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية، وقالت لهم المعتزلة: رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل، أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة، كطائفة من أصحاب وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - أحمد من أهل العصر الأول، ويمكن تقريرها أيضا بالعقل، كما بيناه في غير هذا الموضع. فلا يخلو من ذلك: إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة، وإما أن لا يمكن، فإن أمكن ذلك انقطعت الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة، بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبإجماع السلف المعتزلة، وإن لم يمكن كانوا بين أمرين: إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو، وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو، المتضمن معنى المقابلة والمواجهة.
وهذا أولى بأتباع لأنه قول أئمة مذهبهم الأشعري، وغيره، بل وقول كابن كلاب أيضا وغيره من قدماء الأصحاب. الأشعري
فإن قال له المعتزلي: إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزا، وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن أن يقول له: إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا، وإما أن [ ص: 240 ] لا يكون. الأشعري
فإن كان ممكنا انقطع المعتزلي، وإن لم يكن ممكنا قال له: أنا وافقتك على نفي التحيز، لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز فهو محدث، لما اتفقنا عليه من أن المتحيز لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة، فيصح عليه الاجتماع والافتراق، ويصح عليه الحركة والسكون، وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث، والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء، وما كان مستلزما لما له انتهاء كان له ابتداء، فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء، كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع.
فيقول هذا الدليل إن كان صحيحا، ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضا صحيح، أمكن أن أقول بموجب ذلك، وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز، وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين، فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة، مع موافقتي للكتاب والسنة، أولى من موافقتك على هذه المقدمة، وهي امتناع وجود ما لا يتناهى، فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان، الأشعري: فللفلاسفة فيها قولان، وللمعتزلة فيها قولان، وللأشعرية فيها قولان، ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان.