وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء، يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم، وتبين له مقصودهم. فما ذكرته عن مذكور في كتابه "الإشارات" الذي هو زبدة الفلسفة عندهم، الذي قال في خاتمته: (أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق، وألقمتك نقي الحكم، في لطائف الكلم، فصنه عن المبتذلين والجاهلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والروية والسعادة، وكان صغاه مع الغاغة، أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن [ ص: 245 ] همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته، واستقامة سيرته، أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس، ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق، فآته ما سألك منه مدرجا مجزأ مفرقا، تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه، وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها، أن يجري فيما تؤتيه مجراك، متأسيا بك، فإن أذعت هذا العلم وأضعته، فالله بيني وبينك) ابن سينا
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له، كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له. وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم.
والمقصود هنا أن في الكتاب الذي عظمه، لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته، سلك ما ذكرته لك عنه، كما قد ذكرنا في [ ص: 246 ] غير هذا الموضع، لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم. ابن سينا
قال في آخره: (فهذه هي المذاهب، وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا) .
والرازي لم يعرف وجه وصيته فقال: (إن كان المقصود منه فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم. وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف، لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا، لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته، فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد، لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله. وأما القائلون بالحدوث، فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية، فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد) . الأمر بالثبات على التوحيد،
قلت: بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه، ابن سينا فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا [ ص: 247 ] التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم: إخراج الحوادث كلها عن فعله. وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه، وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه ليس مراد المعتزلة، وسموه أيضا توحيدا.
وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول.
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم، وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم: أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به، الذي يقولون: إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته.
وأيضا فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا إنما يتم إذا ثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت، وإلا فإذا كان الخلق موصوفا بصفات متنوعة: كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة، [ ص: 248 ] والرحمة، بأفعال متنوعة: كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحدا عندهم، بل كان مركبا وجسما.
وحينئذ فيقال لهم: هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو أمر يقدر في الأذهان، لا يوجد في الأعيان، وهو نظير الواحد البسيط، الذي يجعلون منه تتركب الأنواع، فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات، ويقولون: إنه منه تتركب الأنواع الموجودة، هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات، ويقولون: هو مبدأ الوجود. وكلاهما لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو يقدره الذهن، كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان، وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة، كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم.
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه: إما الواحد الكلي البسيط، الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها، وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات. ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم، فبطل نفيهم للصفات، وبطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فبطل قولهم في الأفعال، فبطل ما قرروه في قدم العالم، وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة، حيث قالوا: كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا، من غير قيام أمر متجدد [ ص: 249 ] به؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم.
أيضا فالمقالات التي أبطلها في مسألة حدوث العالم وقدمه، بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات، فكان هذا عصمته التي لا بد له منها. ابن سينا