الوجه الرابع: أن يقال: معلوم أنه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها، ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها.
وقول القائل: علة العدم عدم العلة: إن أراد به أن عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه، فهذا صحيح، وإن أراد أن نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوما فهذا معلوم البطلان بصريح العقل، فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلا، ولأن ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه، والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلا، ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى، لأن ما يقدر عدمه لا يتناهى، وكل هذا باطل، فإن العدم نفي محض، ليس بشيء أصلا حتى يقدر فيه علل ومعلولات.
وإذا كان كذلك، فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده، وإلا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلا، فإذا قدر وجوده واجبا بغيره وجوبا قديما أزليا لم يكن هناك ما يقبل العدم، ولا يمكن أن يقرن بذاته شرط عدم علته. [ ص: 342 ]
وهذا الاعتراض يمكن إيراده على قوله: "كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فهو إما واجب وإما ممكن".
فيقال: إن قيل بأن الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج، فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه، فإذا نظر إليه مجردا عن غيره بطلب حقيقته، وكان نفيا محضا، لم يكن له حقيقة يلتفت القلب إليها ألبتة.
وإن قيل: إن له ذاتا مغايرة للوجود، فتلك الذات سواء قدر إمكان تحققها دون الوجود كما يقوله من يقول: المعدوم شيء، أو فرض أنه لا يمكن تحققها بدون الوجود، فعلى التقديرين إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيرها لم تكن موجودة، بل معدومة، وأنت قد فرضتها موجودة، فهذا جمع النقيضين.
وأيضا فهي مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود، لا جائزة الوجود، فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضي وجوده كان ممتنع الوجود، سواء فرض عدم ما يوجده أو لم يفرض: لا وجوده ولا عدمه، فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده، فإذا التفت إليه مجردا عما يوجده امتنع وجوده.