قلت: لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: أحمد وقد قال في غير موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما، حكم بإسلامه. واستدل بهذا الحديث: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، وهي الدين. فدل على أنه فسر الحديث: بأنه يولد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث: ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث. كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
وقوله في موضع آخر: يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك، فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى. فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها، وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها، كفعل الأبوين.
والمولود ولد على الفطرة سليما، وولد على أن هذه الفطرة السليمة [ ص: 362 ] يغيرها الأبوان، كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه. كما مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: ، فبين أن البهيمة تولد سليمة، ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضا بقضاء الله وقدره. « كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»
وإنما قال الأئمة: ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة، لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله، بل مما فعله الناس، لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة، وكفره بعد ذلك من الناس.
ولهذا قالوا إن لمالك بن أنس: القدرية يحتجون علينا بأول الحديث، فقال: احتجوا عليهم بآخره. وهو قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين.
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية، فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره، بل هو تهود وتنصر باختياره، لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار، فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى، لأن الله، وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك.
كما في الحديث الصحيح: . (إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع [ ص: 363 ] كافرا، ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا)
فقوله: طبع، أي طبع في الكتاب، أي قدر وقضي، لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد، فهو مولود على الفطرة السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر، كما طبع كتابه يوم طبع.
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه، وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط. فإن ذلك لا يقال فيه: طبع يوم طبع، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.
وقد ثبت في صحيح وغيره عن مسلم عياض بن حمار « عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال: . وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك. خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا»
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه وغيره، قال: أحمد . فخطبته لهم بهذا الحديث عقب « بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ قال: أوليس خياركم أولاد [ ص: 364 ] المشركين؟ ثم قام النبي -صلى الله عليه وسلم- خطيبا فقال: ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه» وقوله لهم: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار، ثم الكفر طرأ بعد ذلك. ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده -صلى الله عليه وسلم- من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين. نهيه عن قتل أولاد المشركين،
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله: معناه: لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا، فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز. وليس هذا معنى الحديث، ولكن معناه: إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هؤلاء من أولاد المشركين، فإن آباءهم كانوا كفارا، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. [ ص: 365 ] « أوليس خياركم أولاد المشركين؟»
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا، ففي الصحيحين - واللفظ - عن للبخاري عن ابن شهاب، أبي سلمة، « عن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي هريرة اقرءوا: أبو هريرة: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم [سورة الروم:30]، قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول
وفي الصحيح: قال الزهري: وإن يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا، ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط، كان يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أبا هريرة أبو هريرة: فطرت الله التي فطر الناس عليها [سورة الروم:30]» . ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول
وفي الصحيح من رواية الأعمش: . وفي رواية « ما من مولود يولد إلا وهو على [ ص: 366 ] الملة» أبي معاوية عنه: فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسره إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه، راوي الحديث، واستشهاد ابن شهاب بالآية يدل على ذلك. أبي هريرة
قال في التمهيد: (روي هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عبد البر وغيره، فممن رواه عن أبي هريرة أبي هريرة سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وعبد الرحمن الأعرج، وسعيد بن أبي سعيد، . ومحمد بن سيرين)