قال (وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي، وجعلوا المعلومات قسمين: قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة، وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته، وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب، وقوله سبحانه: الخطابي: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به [سورة آل عمران: 7]، يجعلون [ ص: 328 ] الوقف عند قوله: إلا الله ويستأنفون الكلام فيما بعده، وهو مذهب الصحابة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعائشة، قالوا: وقد حجب عنا أنواعا من العلم، وابن عباس، كعلم قيام الساعة، حين يقول: وكعلم الروح، ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [سورة الإسراء:85]، وقال تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [سورة المائدة: 101]، وقال: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [سورة الأنبياء: 23].
قلت: قد ذكرنا معنى لفظ (التأويل) في غير هذا الموضع، وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به: حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله، كما قال (الاستواء معلوم، والكيف مجهول). ويراد به التفسير، وهو كقوله: (الاستواء معلوم) فإنه تفسيره ومعناه معلوم) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلات مالك: الجهمية، مثل تأويل من تأول: استوى بمعنى استولى. وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه.
ومثل هذا لا يقال فيه: لا يعلمه إلا الله، بل يقال: إنه باطل وتحريف وكذب، ولكن في القسم الأول يقال: لا يعلمه إلا الله، وأما القسم الثاني فيعلمه الله، وقد يعلمه الراسخون في العلم. [ ص: 329 ]
قال (فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر، والتعديل والتجويز، وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما، وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم شيئا، كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها، ولا فائدة فيها، فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور، وخافوا فتنتها، والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه: من الأقوال الشنعة، والمذاهب الفاسدة، ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين، وتوقيف الشريعة) . الخطابي:
قلت: فقد ذكر الخطابي وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم، والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه، وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده، ومن باب العلم الذي لا ينفع، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع. في الكلام المذموم ما لا يدركه الإنسان بعقله، وما لا فائدة فيه.
ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية، فيقول: (هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم. فالأول كالعلم بدقائق الهيئة، وحركات الكواكب، وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان، وتعذيب الحيوان. [ ص: 330 ] والثاني كالعلم بأحكام النجوم، التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئا، والخطأ فيها أكثر من الصواب، والكذب فيها أكثر من الصدق) .
وهذان النوعان غير ما ذكر أولا، ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز.
وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل، فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه، فما كان كذبا غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه، بخلاف ما فيه عسر وهو حق، فإن هذا، وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه [آخر]، بخلاف ما لا يدركه الإنسان، أو ما لا فائدة فيه، فإن هذا قد يقال: إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع، أو من جنس البطالة وتضييع الزمان، لكن متى أفضى بصاحبه إلى اعتقاد الباطل حقا، والكذب صدقا، كان من القسم المذموم بنفسه. وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه، وهو باطل قطعا.