ومن المعلوم أن وإلا لم يخصه بها، وتخصيصه بها مستلزم لمعرفة ما يختص به ويمتاز به غيره، فلا بد أن يكون في القلوب من المعرفة ما يختص به، ويمتاز به عن غيره. الأسماء التي يختص بها بكل حال، أو عند الإطلاق، أو تنصرف إليه بالنية يجب أن يعلم المتكلم بها اختصاصه بها،
وهذه المعرفة لا تكون بقياس كلي مدلوله معنى كلي؛ إذ الكلي لا تخصيص فيه، بل قد يحصل عن قياسين، مثل أن يعلم أن كل محدث له محدث، وأن المحدث للمحدثات ليس هو شيئا من هذا العالم، ولا يكون اثنين، فيعلم أنه واحد خارج عن العالم، ومع هذا فإشارة القلوب إلى عينه خارجة عن موجب قياس الكلي.
وهكذا سائر المعلومات لا يمكن أن تعلم بمجرد القياس الكلي غير معينة في الخارج، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.
ولهذا فإذا قيل: الشمس -أو [ ص: 281 ] الهلال- توجهت القلوب إلى ما عرفته من ذلك. وتوجهها إلى ما عرفته من الخالق أكمل. إذا ذكر الله توجهت القلوب إليه سبحانه، لما في الفطرة من معرفته أبلغ مما توجه إلى معين غيره إذا ذكر.
وهذا أمر مغروز فيها، وقد فطرت عليه. وآياته دوال وشواهد، وهي كما قال تعالى: تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [ق: 7]، فهي تبصر الجاهل، وتذكر الغافل.
قال وههنا سبب آخر وجب أن يسمى به نورا. وذلك أن حال وجوده من عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل هي حال الإبصار عند النظر إلى الشمس، بل حال عيون الخفافيش، فكان هذا الصنف لائقا عند الصنفين من الناس. ابن رشد:
قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام يناسب حال أهل الحيرة والضلال، الذين حارت عقولهم فيه فلم تعرفه، كما يحار البصر في الشمس فلا يراها، فقد مثله بالنور عند الجمهور، لكونه هو الذي يرى، وعند العلماء لكونه لا يرى، فاقتضى هذا أن الجمهور لهم به معرفة، وأن العلماء لا يعرفونه.
وهذا حقيقة كلام هؤلاء، فإنهم يجعلون ما أظهره الله من أسمائه وصفاته لتعريف الجمهور؛ إذ لا يمكن إلا ذلك. وهو عندهم في [ ص: 282 ] الباطن ليس كذلك، بل موصوف بالسلوب التي لا يحصل منها إلا الجهل والحيرة والضلالة.
ومنتهاهم أن يثبتوا وجودا مطلقا لا حقيقة له إلا في الذهن لا في الخارج.
وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المتصوفة: أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد.
وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يثبتوا وجودا للرب مباينا للمخلوقات، متميزا عنها، بل اعتقدوا أن هذا منتف، لكونه يقتضي ما هو منتف عندهم من التحيز والجهة.