قال في تمهيده: (اختلف أصحابنا: هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فقال أبو الخطاب أبو الحسن التميمي: في قضايا العقل ذلك، حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجبا، كشكر المنعم، والعدل، والإنصاف، وأداء الأمانة، ونحو ذلك. ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا، نحو الظلم، والكذب، وكفر النعمة، والخيانة، وما أشبه ذلك). [ ص: 51 ]
قال: (وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة).
قال: (وقال شيخنا -يعني (ليس في قضايا العقل ذلك، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلق بقول القاضي أبا يعلى-: في رواية أحمد عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع).
قال (وهذه الرواية -إن صحت عنه- فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها). أبو الخطاب:
قلت: قول (لا تدركها العقول) أي أن أحمد: ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه. ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة، ليس فيه رد على من يجعل العقول موافقة للسنة). عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه وسلم، فإنها لو أدركت ذلك، لكان علم الناس كعلم الرسول.
قال (وبهذا القول قالت أبو الخطاب: الأشعرية وطائفة من المجبرة، وهم الجهمية).
قال: (وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله: هل هي واجبة بالشرع، حتى لو لم يرد ما يلزم أحدا أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع، يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع.
ومن قال بالأول: قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له. [ ص: 52 ]
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر، لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره، ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة؛ إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم. وإذا كان كذلك لم يأمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب، وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص، وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء، والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها. ولما وجب اطراح هذا القول، والاعتقاد بأن متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة، ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة). الله جلت عظمته منزه عن الكذب،