ولازم هذا أن ومن [ ص: 112 ] قال "إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا" تبطل حجته على من قال: "إن القرآن العربي مخلوق" أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه، المعتزلة، فإن أصل الحجة أنه إن خلق كلاما في محل كان الكلام صفة لذلك المحل، فإذا كان القرآن العربي كلاما مخلوقا في محل، كان ذلك المحل هو المتكلم به، ولم يكن كلام الله، ولهذا قال من قال: "لا يسمى كلاما إلا مجازا" فرارا من أن يثبتوا كلاما حقيقيا قائما بغير المتكلم به، فلما عظم شناعة الناس على هذا القول، وكان تسمية هذا كلاما حقيقة معلوما بالاضطرار من اللغة، أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركا، فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم.
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج ونحوهم، فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة - ومضمونها: أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء ولا هو متكلم باختياره ومشيئته - طمع فيهم أولئك ؛ لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره، وهو قادر على الكلام، وهو يتكلم بما يشاء. ابن كلاب
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون [ ص: 113 ] بإرادته وقدرته، فلزم هؤلاء - إذا جعلوه يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه، ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادرا على الكلام، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بما يشاء.
والمقصود هنا أن وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما عبد الله بن سعيد بن كلاب كما قال تعالى: قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، فقالوا: "منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره، ومقصودهم أنه هو المتكلم به، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ سورة الزمر: 1] وقال تعالى: ولكن حق القول مني [ سورة السجدة: 13] وأمثال ذلك.
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له متعلقا بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له، فاحتاجوا [ ص: 114 ] أن يقولوا "معنى واحدا" فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.
وأنكر الناس عليهم أمورا: إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر، وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله، وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن، وأن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته واختياره، وتكليمه لمن كلمه من خلقه، كموسى وآدم، ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.