وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات. وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزما لثبوت هذين الأصلين، كان ذلك مما يدل على صحتهما، كما دل على ذلك [ ص: 153 ] سائر الأدلة الشرعية والعقلية، فإن ثبوت العلم بكل شيء، مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين، ومما هو ثابت بقواطع البراهين.
فإذا كان مستلزما لإبطال هذين الأصلين، اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية، كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه، وتصديق ما جاء به الرسول، وموافقته لصريح العقل، وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله، بخلاف الأقوال المخالفة لذلك، فإنها كلها متناقضة.
وتدبر حجج النفاة، فإنها كلها من أسقط الحجج، كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة: إن العلم ليس بزيادة شرف، فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم، ويقول: إنه إذا كان عالما فقد جعل ناقصا بذاته مستكملا بغيره.
أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر: أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم، كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر.
ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر، وأن النافي لها قال قولا منكرا في الفطرة.
كقوله تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]، فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر، تنكر على من سوى بينهما.
كقوله تعالى: قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين [الأنعام: 143]. [ ص: 154 ]
وقوله: قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [يونس: 59].
وقوله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [الأعراف: 32].
وقوله: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا [الأنعام: 148].
وكذلك قوله: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم [النحل: 75-76].
وقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [النحل: 17].
وقوله: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى [يونس: 35].
وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره، وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر، والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها، وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها، فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص، [ ص: 155 ] لا يمكن أن يكون ربا ولا معبودا، ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب.
كقوله تعالى عن الخليل: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [مريم: 42].
وقوله تعالى: واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين [الأعراف: 148].
وقوله: أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [طه: 89].
وقوله: والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [النحل: 20-21].
وقوله: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18].
وقوله عن الخليل: أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون [الصافات: 95-96].
وقوله أيضا: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [الشعراء: 72-73].
وقوله: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [الأنبياء: 66-67]. وأمثال ذلك كثير. [ ص: 156 ]
والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال، وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم، وكون عدم العلم نقصا- هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم.