ثم نذكر وجوها أخر لبيان فساد هذا الأصل الذي يتوسل به أهل الإلحاد إلى رد ما قاله الله ورسوله فنقول: [ ص: 134 ]
الوجه الرابع: أن يقال: العقل إما أن يكون عالما بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون عالما بذلك.
فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوما له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوما له لم يتعارض مجهولان.
وإن كان عالما بصدق الرسول امتنع ـ مع هذا ـ أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر.
غايته أن يقول: هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا، فهل يمكنه ـ مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا ـ أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازما له لزوما ضروريا، كما تلزم سائر العلوم لزوما ضروريا لمقدماتها؟
وإذا كان كذلك فإذا قيل له في مثل هذا: لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به؛ لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق، كان حقيقة الكلام: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه، فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور، فإذا قيل: لا تصدقه لئلا يلزم أن لا تصدقه، كان كما لو قيل: كذبه لئلا يلزم أن تكذبه.
فيكون المنهي عنه هو المخوف المحذور من فعل المنهي عنه، والمأمور به هو المحذور من ترك المأمور به، فيكون واقعا في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركا للمأمور به سواء أطاع [ ص: 135 ] أو عصى، ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة لهذا الآمر الذي أمره بتكذيب ما تيقن أن الرسول أخبر به أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية، والمنهي عنه على هذا التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذ فلا يجوز النهي عنه سواء كان محذورا أو لم يكن، فإنه إن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهى عنه، وإن كان محذورا فلا بد منه على التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه، بل إذا كان عدم التصديق هو المحذور كان طلبه ابتداء أقبح من طلب غيره لئلا يفضي إليه، فإن من أمر بالزنا كان أمره به أقبح من أن يأمر بالخلوة المفضية إلى الزنا.
فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمهم أنه رسول الله، لئلا يفضي تصديقهم له إلى عدم تصديقهم له، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمرا له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمرا له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره.
ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالى وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، [ ص: 136 ] فصار وجود الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده ـ على قولهم ـ أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئا، واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا،
فإن قالوا: لا يتصور أن يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل، فإنه منزه عن ذلك، وهو ممتنع عليه.
قيل لهم: فهذا إقرار منكم بامتناع معارضة الدليل العقلي للسمعي.
فإن قالوا: إنما أردنا معارضة ما يظن أنه دليل وليس بدليل أصلا، أو يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدماته: إما في الإسناد، وإما في المتن كإمكان كذب المخبر أو غلطه، وكإمكان احتمال اللفظ لمعنيين فصاعدا.
قيل: إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل، أمكن أن يفسر الدليل العقلي المعارض للشرع بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل.
وحينئذ فمثل هذا ـ وإن سماه أصحابه براهين عقلية أو قواطع عقلية، وهو ليس بدليل في نفس الأمر، أو دلالته ظنية ـ إذا عارض ما هو دليل [ ص: 137 ] سمعي يستحق أن يسمى دليلا لصحة مقدماته، وكونها معلومة، وجب تقديم الدليل السمعي عليه بالضرورة واتفاق العقلاء.
فقد تبين أنهم بأي شيء فسروا جنس الدليل الذي رجحوه أمكن تفسير الجنس الآخر بنظيره وترجيحه كما رجحوه، وهذا لأنهم وضعوا وضعا فاسدا، حيث قدموا ما لا يستحق التقديم لا عقلا ولا سمعا، وتبين بذلك أن تقديم الجنس على الجنس باطل، بل الواجب أن ينظر في عين الدليلين المتعارضين، فيقدم ما هو القطعي منهما أو الراجح إن كانا ظنيين، سواء كان هو السمعي أو العقلي، ويبطل هذا الأصل الفاسد الذي هو ذريعة إلى الإلحاد..