قال : "الوجه الثاني : في هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته أو [ ص: 195 ] لغيره ، لا جائز أن يقال بالأول ، وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته ، للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض ، وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته ، والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته له لا يكون إلها" . بيان لزوم المحال من اتصافه بهذه الصفات:
قلت : ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته؟
قوله : "يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض" .
قيل : الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام ، وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية ، فلم قلت : إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة ، فإن هذا مبني على تماثل الأجسام ، وهو ممنوع ، وهو باطل .
وإن قيل : إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقته بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، ويجب له ما يجب له، فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة ، وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ، ولكن لا يلزم من فساده أن [ ص: 196 ] لا يكون النزاع إلا لفظا ، فإن المنازع يقول : ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع، ولكن شاركها غيره في مسمى الجسمية ، كما إذا قيل : هو حي وغيره حي ، شاركه في مسمى الحي، وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والذات والحقيقة ، فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما ، وما اختص بأحدهما لم يثبت للآخر .
ومعلوم أن . ومن قال : إنه جسم ، لم يقل : إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ، ويقول مع ذلك : إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق ، كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك . مسمى الجسمية إن قيل : إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر ، فلا يقول عاقل : إن الله جسم بهذا التفسير
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام ، وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام ، فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين ، فالمنازع يقول : مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية ، والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره ، وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه ، لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ، ولا كل موجود ، وكذلك لا يكون [ ص: 197 ] كل جسم . فتبين أن كل ما ذكره مغلطة ، لأنه قال : إما أن يقال : إنه جسم كالأجسام ، وإما أن يقال : جسم لا كالأجسام ، فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى ، فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول : جسم لا كالأجسام ، ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام ، فكان حقيقة قوله : إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع ، وإما أن لا يقال بذلك ، فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ، ومن قال بالأول فقوله باطل .
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل : إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر . ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة ، فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين ، إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه ، محدثا لا محدثا ، ممكنا لا ممكنا ، قديما لا قديما، إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات .
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ، ولم ينازعه فيه أحد ، والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائله ، بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه ، وهو قول من يقول : هو [ ص: 198 ] جسم كالأجسام ، بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية ، كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس ، وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ، ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ، ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه ، لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه .
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين ، وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات ، لكنه يقول : إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة ، وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر ، وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق .
لكن هذا القول لم يقرر هنا ، فبقي كلامه هنا بلا حجة ، مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف . وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين : على إثبات الجوهر الفرد، وتماثل الجواهر . وكلاهما ممنوع باطل ، قد قرر هو أنه لا حجة عليه ، مع أن القول بأنه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد ، ولا نقله أحد عن أحد ، وهو مع هذا لم [ ص: 199 ] يذكر دليلا على نفيه ، فكيف قد أقام دليلا على نفي قول من يقول : هو جسم لا كالأجسام؟