الوجه الخامس: أن الدليل الذي ذكره غايته أن يثبت أن الحوادث [ ص: 196 ] لها ابتداء، وهذا غايته أن يكون بمنزلة إذ لو كانت العلل متعاقبة محدثة، وللحوادث أول، لزم أن يكون للحادث أول. إثبات حدوث العالم.
وهو وأمثاله مع كونهم يحتجون على حدوث العالم، فلم يقولوا: إن المحدث لا بد له من محدث، كما هو قول الجمهور، ولا أثبتوا ذلك بأن الحدوث مخصص بوقت دون وقت فيفتقر إلى مخصص، كما فعله كثير من أهل الكلام، بل ولا بأن الممكن يفتقر إلى المرجح لوجوده، بل قالوا: المحدث ممكن، والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، ثم أوردوا جواز التسلسل في العلل، وأجابوا عن ذلك.
فإذا كان الجواب عن ذلك لا يتم إلا بإثبات حدوث العلل، كان غايتهم أن يثبتوا افتقار الممكن إلى علة حادثة، فهم بعد ذلك إن قالوا: والمحدث لا بد له من محدث، كانوا قد قالوا حقا، لكن طولوا بذكر تقسيمات لا فائدة فيها بل تضعف الدليل، وكانوا مستغنين عنها في الأول.
وإن لم يقولوا: والمحدث لا بد له من محدث، لم يكن ما ذكروه نافعا. فإن مجرد حدوث العلة، إن لم يستلزم وجود المحدث لم يثبت واجب الوجود. [ ص: 197 ]
فتبين أن ما سلكوه إما أن لا يفيد، أو يكون فيه من التطويل والتعقيد ما يضر ولا ينفع، ومع هذا فمثل هذا التطويل والتعقيد قد يكون فيه منفعة لمن يسفسط ويعاند، ولمن لا تنقاد نفسه إلا بمثل ذلك، كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع.