وكذلك غير طائفة من أهل الكلام والفلسفة لفظ التوحيد والإيمان والسنة والشريعة ونحو ذلك من الألفاظ المستعملة في الأمور الإلهية.
والمقصود هنا أن السائل إذا سأل عن الأمور الدينية بألفاظ ليست مأثورة عن الرسول في ذلك، مثل سؤاله بلفظ: الجهة، والحيز، والجسم، والجوهر، والمركب، والمنقسم، ونحو ذلك- نظرنا إلى معنى لفظه، فأثبتنا المعنى الذي أثبته الله ونفينا المعنى الذي نفاه الله.
ثم إن كان التعبير عن ذلك بعبارته سائغا في الشرع، وإلا عبر بعبارة تسوغ في الشرع.
وإذا كانت عبارته تحتمل حقا وباطلا، منع من إطلاقها نفيا وإثباتا. [ ص: 303 ]
ولفظ الجسم والجوهر ونحوهما من هذا الباب. فإذا قال السائل: هل الله جسم أم ليس بجسم؟ لم نقل: إن جواب هذا السؤال ليس في الكتاب والسنة، مع قول القائل: إن هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع.
والله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3].
وقال: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 115].
وقال: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [النحل: 89].
وقال: ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف: 111].
وقال: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 123-126].
وقال: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [الأعراف: 3]. [ ص: 304 ]
وقال: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [الأنعام: 153].
وقال: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [المائدة: 15-16].
وقال: الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [إبراهيم: 1].
وقال: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [العنكبوت: 51].
وقال: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف: 157].
ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل.
وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».
وكان يقول: وفي لفظ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من [ ص: 305 ] بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»، « وكل محدثة بدعة».
وكان يقول: «تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».
وكان يقول: «ما أمركم الله بشيء إلا أمرتكم به، ولا نهاكم الله عن شيء إلا نهيتكم عنه».
وقال لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما. ومثل هذا كثير. أبو ذر:
فكيف يكون هذا- مع هذا البيان والهدى - ليس فيما جاء به جواب عن هذه المسألة، ولا بيان الحق فيها من الباطل، والهدى من الضلال؟! بل كيف يمكن أن يسكت عن بيان الأمر، ولو لم يسأله الناس؟! [ ص: 306 ]
واعتقاد الحق واجب فيها: إما على العامة والخاصة، وإما على الخاصة دون الأمة، لا سيما مع كثرة النصوص المشعرة بأحد قسمي السؤال. وإنما يقول: إن جواب هذا السؤال وأمثاله ليس في الكتاب والسنة، الذين يعرضون عن طلب الهدى من الكتاب والسنة، ثم يتكلم كل منهم برأيه ما يخالف الكتاب والسنة، ثم يتأول آيات الكتاب على مقتضى رأيه، فيجعل أحدهم ما وضعه برأيه هو أصول الدين الذي يجب اتباعه، ويتأول القرآن والسنة على وفق ذلك، فيتفرقون ويختلفون.
كما قال فيهم هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. الإمام أحمد:
ولو اعتصموا بالكتاب والسنة لاتفقوا، كما اتفق أهل السنة والحديث.
فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم. ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا قال: إن الله ليس بجسم، بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية، من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات، مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة؛ لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه.
كما قيل: المعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما.
ومن يعبد إلها موجودا موصوفا بما يعتقده هو من صفات الكمال، وإن كان مخطئا في ذلك، خير ممن لا يعبد شيئا، أو يعبد من لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات. [ ص: 307 ]
ونفاة الصفات، وإن كانوا لا يعتقدون أن ذلك متضمن لنفي الذات، لكنه لازم لهم لا محالة، لكنهم متناقضون.
ولهذا لا يوجد فيهم إلا من فيه نوع من الشرك، ولا بد من ذلك لنقص توحيدهم الذي به يتخلصون من الشرك.
والمقصود أن يقال: جواب هذا السؤال في الشريعة. وذلك أن يقال: إن الله قد بين ما هو ثابت له من الصفات وما هو منزه عنه، وأثبت لنفسه صفات الكمال، ونفى عنه صفات النقص.
فيقال لمن سأل بلفظ الجسم: ما تعني بقولك؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ فإن عنيت ذلك فالله تعالى قد بين في كتابه أنه لا مثل له، ولا كفو له، ولا ند له، وقال: أفمن يخلق كمن لا يخلق [النحل: 17].
فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات، فالله منزه عن ذلك، وجوابك في القرآن والسنة. فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله:
وإذا كان الله ليس من جنس الماء والهواء، ولا الروح المنفوخة فينا، ولا من جنس الملائكة، ولا الأفلاك، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ولحمه وعصبه وعظامه، ويده ورجله ووجهه، وغير ذلك من أعضائه وأبعاضه، أولى وأحرى.
فهذا الضرب ونحوه، مما قد يسمى تشبيها وتجسيما، كله [ ص: 308 ] منتف في كتاب الله، وليس في كتاب الله آية واحدة تدل، لا نصا ولا ظاهرا، على إثبات شيء من ذلك لله، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافة إليه.
كقوله: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [البقرة: 255] و: إن الله هو الرزاق ذو القوة [الذاريات: 58].
و: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75]، ويبقى وجه ربك [الرحمن: 27]، والسماوات مطويات بيمينه [الزمر: 67]، كما قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116].
ومعلوم أن نفس الله، التي هي ذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، ليست مثل نفس أحد من المخلوقين.
وقد ذهب طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الحديث وغيرهم، وفيهم طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهما، إلى أن النفس صفة من الصفات. وأحمد
والصواب أنها ليست صفة، بل نفس الله هي ذاته سبحانه، والموصوفة بصفاته سبحانه، وذلك لأنه بإضافته إليه قطع المشاركة.
فكذلك لما أضاف إليه علمه وقوته، ووجهه ويديه، وغير ذلك، قطع بإضافته إليه المشاركة.
فامتنع أن شيئا من ذلك من جنس صفات المخلوقين، كما امتنع أن تكون ذاته من جنس ذوات المخلوقين. [ ص: 309 ]
ولهذا اتفق السلف والأئمة على الإنكار على المشبهة، الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي.
وإن عنيت بلفظ الجسم الموصوف بالصفات، القائم بنفسه، المباين لغيره، الذي يمكن أن يشار إليه، وترفع إليه الأيدي -فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم والقوة والرحمة، والوجه واليدان، وغير ذلك، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه: خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش [الفرقان: 59]، وأنه: تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4].