قلت: هذا الرجل سلك مسلك صاحب مشكاة الأنوار، فإن ذلك الكتاب موضوع على قواعد هؤلاء المتفلسفة. هذا يمدح [ ص: 283 ] كلامه في مشكاة الأنوار وما كان مثله مما وافق فيه الفلاسفة. وابن رشد
والمسلمون يقدحون في كلامه الذي وافق فيه الفلاسفة، ويمدحون من كلامه ما وافق فيه المسلمين وناقض به الفلاسفة، فما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هذا وأمثاله، وينشد:
يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدنان
وما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هؤلاء، وقد ذكر في مشكاة الأنوار ما يناسب ما ذكره هذا في النور. ومن هنا دخل الملحدون من الاتحادية، الذين قالوا بوحدة الوجود، وقالوا: إن الخلق مجال ومظاهر؛ لأن وجود الحق ظهر فيها وتجلى، فجعلوا نفس وجوده هو نفس ظهوره وتجليه.
ومن المعلوم أن الشيء يكون موجودا في نفسه ثم يظهر ويتجلى تارة، ويحتجب أخرى، سواء كان تجليه لوجود سبب الرؤية في الرائي، كالأعمى إذا صار بصيرا، أو لزوال المانع في الظاهر، كالحجب المانعة. أو لهما جميعا.
وهؤلاء جعلوا وجود الحق في المخلوقات، هو نفس ظهوره وتجليه فيها.
وسموها مجالي ومظاهر، وذلك أن حقيقة قولهم: إنه ليس موجودا في الخارج، ولكنهم يظنون أنهم يعتقدونه موجودا في الخارج، [ ص: 284 ] فإذا شاهدوا الوجود الساري في الكائنات، ظهر لهم هذا الوجود وهم يظنونه الله، فسموها مظاهر ومجالي؛ لأنها أظهرت لهم ما ظنوا أنه الله.
ولو أنهم جعلوها آيات أظهرت لهم وبينت ما دلت عليه من وجوده وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، مع علمهم بأن وجوده مباين لوجودها -لكانوا مهتدين.
وما ذكره هذا الرجل موافقا فيه لصاحب المشكاة أن النور سبب وجود الألوان، وسبب إدراكنا لها، كما أن الله سبب وجود الموجودات، وسبب معرفتنا بها -ليس بمستقيم، فإن الألوان موجودة في نفسها، سواء أدركناها أو لم ندركها، وهي في نفسها مستغنية عن النور، ولكن النور شرط في إدراكنا لها، لا في وجودها.
وليس المخلوق مع الخالق كذلك، بل ونحو ذلك مما يقتضيه كلام هذا الرجل في تهافت التهافت وكلام أمثاله من هؤلاء المتفلسفة الخالق هو المبدع لأعيان الموجودات، وليس هو معها كالشرط مع المشروط، الاتحادية وغيرهم، الذين يجعلونه مع الموجودات كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، كالكلي مع الجزئي، كالجنس مع النوع، أو النوع مع الشخص، ونحو ذلك من التمثلات التي يقتضي أنه مفتقر إليها، وهي مفتقرة إليه، وكل منهما مع الآخر، كالشرط مع المشروط، كما قد صرح بذلك صاحب الفصوص وغيره.
بل هو سبحانه الغني بنفسه عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما [ ص: 285 ] سواه مفتقر إليه من كل وجه، وليس شيء أفقر إلى شيء من المخلوق إلى الخالق، ولا شيء أغنى عن شيء من الخالق عن المخلوق، ولا يشبه فقر الخلق إليه وغناه عنهم شيء من أنواع الفقر والغنى.