وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه، بقوله تعالى: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [سورة الأنبياء:51]، وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم، إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله، فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال، لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد. وإنما الإله الذي خلقكم، ولمعرفته فطركم:
هو الذي أخبر عنه بقوله: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض [سورة الأنعام:79]، وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر، فإنما المراد به الاستفهام) . [ ص: 516 ]
قلت: وذكر ابن عبد أشياء، وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت، وكلام مستدرك، فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية.
إلى أن قال: وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه، ومذكرا لهم الميثاق الأول، ردا لهم إلى ضرورتهم، ليصلوا إلى ما انعجم عليهم بما هو ضرورتهم وكوشفوا به، وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كما حكي، فأين محل النظر والاستدلال؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره، حتى يلتبس على الخليل، الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين؟! نعوذ بالله من الحيرة في الدين.
لا جرم وقال تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه [سورة الأنعام:83]، ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولا بعقل، وهو الذي لا يدركه عقل، ولا يحيط به إحاطة، وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير، لا إلى من: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [سورة الشورى:11]، فعرفنا أن لكل أثر مؤثرا، ولكل بناء بان، ولكل كتابة كاتب من ضرورتنا إلى ذلك، كما عرفنا اضطرارا أن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ومعرفة وجودنا، وغير ذلك، إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه، لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز، كيف في عدمه وعجزه؟!) . [ ص: 517 ]
قال: (والفصل الرابع: وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال، وخالص الأعمال مدلول عليها، وإن كان الأصل فضل الله المحض.
قال الله تعالى: فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [سورة التوبة:24]، وقد روي: معرفة، وزدناهم هدى [سورة الكهف:13]، ولدينا مزيد [سورة ق:35]، لئن شكرتم لأزيدنكم [سورة إبراهيم:7]، فوعد بالزيادات وأخبر عنها، فكلما نصحوا فيما عرفوا، كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول.
وفي الحديث: « من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» وكان يقول: (جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا، ولو عملنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عمر بن عبد العزيز « من أراد عزا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وعلما بلا تعلم، فليخرج من ذل معصية الله، إلى عز طاعة الله، فإنه واجد ذلك كله» .
وقد روي: « إذا زهد العبد في الدنيا، وكل الله سبحانه بقلبه ملكا [ ص: 518 ] يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه» .
وقد كان رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله-: (احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة) فكلما استعمل العبد عقله، وعمل بعلمه، وأخلص في عمله، وصفا ضميره، وجال بفهمه في بصيرة العقل، وذكاء النفس، وفطنة الروح وذهن القلب، وقوى يقينه، ونفى شكه، وضبط حواسه بالآداب النبوية، وقام على خواطره بالمراقبة، وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال، وصار الصدق وطنه، وذهب عنه الرياء والعجب، وأظهر الفقر والفاقة إلى معبوده، وتبرأ من حوله وقوته، ولزم الخدمة، وقام بحرمة الأدب، وحفظ الحدود والاتباع، وهرب من الابتداع، زيد في معرفته، وقويت بصيرته، وكوشف بما غاب عن الأعيان، وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد، وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة، ولا أيضا معرفة التوحيد، إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب، فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد، ولا على معرفة المزيد، إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل، وإنزال الكتب، [ ص: 519 ] وإقامة الحجج، وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها، وأقامها مع مقدرتها، لم يكلفها فوق الطاقة، ولا شططا، فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته، ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة، فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار، وذلك غلط. وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة، ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب، وذلك أيضا غير صواب، وبه يقول عمر بن الخطاب القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم، وأصحاب الحديث وأهل الظاهر، فيقولون بالاضطرار والاكتساب.
والأمر هو ما ذكرنا، والصواب ما شرحنا، لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة، نصرح بإبطالها، ونومي إلى تناقض الأحاديث، فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها، ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت، ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا.