ثم إنهم لما نظروا - مع فرط ذكائهم - ولم يصلوا إلا إلى هذا، ظنوا أنه لا غاية وراءهم، فقالوا ما قالوا. وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق، فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه، كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء، صاروا إذا رأوا شخصا ظهر عنه ما يدل على كمال عقله، وعظم علمه وفضله، ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة، يجعلون قوله هو قولهم في الباطن، وإن تظاهر بتكفيرهم والرد عليهم. فإذا قيل لأحدهم: نحن قد سمعنا منه ورأينا من كلامه ما يناقض قول الفلاسفة، يقول ذلك الفيلسوف الفاضل: هذا والله قد عرف حقيقة قولنا، ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه، إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه، ثم [ ص: 58 ] يبقى حائرا: هل فوق قولهم ما هو أكمل منه، لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم، مع حسن قصده وعدله، قد عدل عنه إلى قول يناقضه؟ أو ليس فوقه ما هو أكمل منه؟ لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه.
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم، وإن كان مظهرا للإنكار عليهم، وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية، يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، مع عدم علمهم بمعانيها.
وإن كانوا من نفاتها قالوا: إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن: ولا يعلمون مدلول النصوص. ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها، والسلف عندهم أعظم الناس، جعلوا هذا غاية السلف.
وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين: إحداهما: أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه، لا بدليل عقلي ولا سمعي. الثانية: أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان، فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه، وفي معرفة الأنبياء والسلف به، وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة، فجعلوا ذلك [ ص: 59 ] منتهى غيرهم، فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه.
وقد رأينا من ذلك أمورا، حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن أو فلان أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، الشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام. والشافعي