وأما من قوله: (ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ابن عقيل .. إلى آخر كلامه) فهذا كله في العلل الغائية، وحكمة الأفعال وعواقبها، ومسائل القدر والتعديل والتجوير، فإن ما ذكره كان - لكثرة نظره في كتب ابن عقيل المعتزلة وما عارضها - عنده في هذا الأصل أمر عظيم، وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس.
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري، ومن وافقهم في أصل قولهم، وإن كان يختلف كلامه، والقاضي أبي بكر، كالقاضي أبي يعلى، وطوائف لا يحصيهم إلا الله، ينكرون التعليل جملة، ولا يثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم. وابن الزاغوني،
والمعتزلة يثبتون تعليلا متناقضا في أصله وفرعه، فيثبتون للفاعل تعليلا لا تعود إليه حكمة، ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد [ ص: 55 ] أراد به الفاعل كل ما هو صالح له أو أصلح، وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك، ويتكلمون في الآلام والتعويضات، والثواب والعقاب، بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى.
وفي ذلك الحكاية المشهورة مع لأبي الحسن الأشعري لما سأله عن إخوة ثلاثة: مات أحدهم قبل البلوغ، والآخر بلغ فكفر، والآخر بلغ فآمن وأصلح، فرفع الله درجات هذا في الجنة، والصغير جعله دونه في الجنة، والكافر أدخله النار. فقال له الصغير: يا رب ارفعني إلى درجة أخي. قال: إنك لا تستحق ذلك، فإن أخاك عمل عملا صالحا استحق به ذلك. فقال: يا رب إنك أحييته حتى بلغ، وأنا أمتني، فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل. فقال له: إنه كان في علمي إنك لو بقيت لكفرت، فاخترتك إحسانا إليك. قال: فصرخ الكافر من النار: يا رب فهلا أمتني قبل البلوغ ما فعلت بهذا؟ قالوا: فلما سأله عن ذلك انقطع. أبي علي الجبائي
ولهم على كلام أبي الحسن أجوبة لها موضع آخر.
والمقصود هنا أن نظر في تعليلات ابن عقيل المعتزلة فرآها عليلة، ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة، خلافا لما كان [ ص: 56 ] ينصره شيخه فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة، ويقر بالعجز عن التفصيل. القاضي أبو يعلى:
والقاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها، وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزئية، كما يشهد ذلك في المخلوقات والمأمورات، وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات، وهو مذهب كثير من النظار، أو أكثرهم، في تعليل المخلوقات، كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
ولم يرد بقوله: (وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات) . والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع، وإثبات الصفات له، والمعاد، ونحو ذلك، فإن تلك عند ابن عقيل وأمثاله برهانيات يقينيات، فكيف يجعلها عند [ ص: 57 ] الأنبياء والسلف إقناعيات؟ ولكن أراد بذلك، الإقناعيات في تعليل أفعاله. وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم، ومنتهاهم من المعرفة في ذلك. وأما ابن عقيل ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية، كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غايتها، لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق، والصحابة بعدهم أفضل الخلق، فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل. الأنبياء عليهم السلام، والسلف رضوان الله عليهم، فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وأمثاله،