وأما جنس فقد تكون واجبة تارة ومستحبة أخرى. وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها: محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل. المناظرة بالحق
ومنشأ الباطل من نقص العلم، أو سوء القصد. كما قال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس [سورة النجم: 23] .
ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له، والله هو الحق المبين، ومحبته أصل كل عبادة، فلهذا كان وهذا هو ملة أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته، إبراهيم خليل الله تعالى، الذي جعله الله للناس إماما، وجعله أمة يأتم به الخلق، وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين. [ ص: 175 ]
ثم ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه: إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر [سورة البقرة: 258] ، ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب.
والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم، قولهم مأخوذ من قول خصمائه، كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام، فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه، وجحد تكليمه لموسى. وقوم إبراهيم كانوا مشركين، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، وكان فيهم من هو معطل، كما ذكر الله تعالى ذلك.
والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب: فيهم المشرك، وفيهم المعطل. ونفي الصفات من أقوالهم، فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود ربا أبدعه، كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم، ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته، ومنهم من يثبت له مبدعا واجبا بنفسه أبدعه، كما هو قول الدهرية الإلهية منهم، ويقولون: إن الواجب ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، وإما إضافة، وإما مركبة منهما.
وكان من أهل الجعد بن درهم حران، وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة - خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام، فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم، موافقة لفرعون والنمروذ، بناء على أصل هؤلاء [ ص: 176 ] النفاة، وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا [يقوم به] محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه.
والمحبة متضمنة للإرادة، ومسألة الكلام والإرادة ضل فيها طوائف، كما ضلوا في الذي أنكره إنكار العلو فرعون على موسى. كما قد بسط هذا في موضعه.