والكلام الذي ذموه نوعان: أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذبا، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل كذب، فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم: من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم.
وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهرا قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين رضي الله عنه عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون [ ص: 173 ] الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما - كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعيا، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل رضي الله عنه واستتابه، ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه. عمر بن عبد العزيز
وكذلك - رضي الله عنه - بعث علي إلى ابن عباس الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة.
قال الله تعالى: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [سورة الشورى: 16] .
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجا قويا من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنها إذا كان المناظر [ ص: 174 ] معاندا يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزا عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه، وإن كان مستحقا للعقاب عاقبوه مع القدرة: إما بالتعزير وإما بالقتل، وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر. المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائيا،
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.