الوجه الثاني: أن هذه الأمور: إما أن تكون قائمة بنفسها، وإما أن تكون قائمة بغيرها. فإن قال: هي قائمة بنفسها، مثل أن يريد [ ص: 279 ] بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى، أو جسما آخر، فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة. وإن كانت قائمة بهذه الأجسام، فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام.
فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود، لا جسم ولا قائم بجسم، فضلا عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة، وما لا يمكن الإشارة إليه.
وهكذا القول في الخجل، والوجل، وسائر الأعراض النفسانية.
فإن قال: هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة، وتلك ليست جسما، ولا قوة في جسم، ولا يمكن الإشارة إليها، وليست داخل السماوات والأرض، ولا خارج السماوات والأرض، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تتحرك ولا تسكن.
فيقال له: هذا منتف في التخيل والتوهم، ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم.
ثم يقال: إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة، كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، وإن لم يثبت ذلك، لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، وقال لك المنازع: جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها، كما يشار إلى غيرها من الأعراض، ويمكن الإحساس بها، وإن كنت الآن لا أحس بها، كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة.
[ ص: 280 ] وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج، وجمهور العباد لا يحسون بهم، والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن، وهذا معلوم بالضرورة.