الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وثبوت الملزوم بدون الإلزام محال، فمن قدم العقل على الشرع، فقد [ ص: 276 ] قدح في العقل والشرع جميعا، وهو حال الذين قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [سورة الملك: 10] .

وإذا قال القائل: نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع.

قيل: ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع. وإنما قلنا: "مما يقال إنه عقل لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سماه أصحابه معقولا.

فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة.

قال الله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات [سورة الأنعام: 39] ، وقال تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44] .

ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع. [ ص: 277 ]

ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعا.

وذلك، لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، به علمت صحته، فلو قدمنا عليه الشرع للزم القدح في أصل الشرع.

يقال له: ليس المراد بكونه أصلا له: إنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلا لنا على صحة الشرع.

ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحا والشرع مرجوحا، بحيث لا يكون خبره مطابقا لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلا، فيكون العقل الذي دل عليه باطلا، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم قطعا.

ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلا لم يكن الدليل عليه إلا باطلا.

أما إذا قدم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة. فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟! وإنما يناقض شيئا آخر ليس هو دليل صحته، بل ولا يكون صحيحا في نفس الأمر.

التالي السابق


الخدمات العلمية