فإذا قال القائل: "إنسان" كان للفظه وجود في لسانه، وللمعنى وجود في ذهنه، ووقوعه هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو، وهذا هو المعنى الذي سميته معقولا، وجعلته معقولا صرفا، [ ص: 134 ] وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل؟ فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو ما لا يوجد إلا في العقل، وما لا يوجد إلا في العقل لم يكن موجودا في الخارج عن العقل، فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس، أخرج منه المعقولات المحضة التي يختص بها العقلاء، وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء، فإن الإنسان إذا تصور زيدا أو عمرا ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاما كليا معقولا، لا يتصور أن يكون موجودا في الخارج عن العقل.
فهذا هو وجود الكليات، وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة، لا توجد إلا بوجودها، وتعدم بعدمها، وليس بينها وبين الموجودات الخارجية تلازم، بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها، ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج، كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك، فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان.
قال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل [سورة الأعراف: 179]، وقال تعالى: والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات [سورة الأنعام: 39]. [ ص: 135 ]
وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [سورة الحج: 46].
وقال تعالى: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا [سورة الفرقان: 44].
وقال تعالى: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [سورة الأحقاف: 26].
وقولهم: فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة، بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس، بل معقول صرف.
وكذلك الحال في كل كلي هو من الأقوال الملبسة، فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان، أو ما يوجد منه، أو شيء ثالث.
فأما شيء ثالث فلا حقيقة له، فإن كان له حقيقة فبينوها.
فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه، أو ما هو متصور في الذهن، إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس [ ص: 136 ] بحاصل في العلوم والأذهان، ليس بموجود في الأعيان، فلا حقيقة له ألبتة، ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه ما لا حقيقة له، كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج.
فإذا قلت: الإنسان من حيث هو هو، مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أو العين.
قلت لك: تقديره مطلقا لا بشرط من حيث هو هو - هو أيضا من تقديرات الأذهان، فإذا كان ما لا يوجد إلا مقدرا في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان، جمعت بين النقيضين.
فإن قلت: أنا يمكنني أن أتصور إنسانا مطلقا، مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج.
قلت: تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء، وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر. فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه، وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن، كما تتصور إنسانا مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا يخلو عن واحد منهما، فهذا تصور للشيء دون لوازمه.
وأما تصوره مقيدا بسلب الوجود الذهني والخارجي، فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين، وهو كتصور إنسان مقيد بكونه لا موجودا ولا معدوما، ومجرد فرض هذا في الذهن يوجب العلم بامتناعه.
وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة، إمكان وجوده في [ ص: 137 ] الخارج بدون لازمة، فكونه إما في الذهن، وإما في الخارج هو من لوازمه، ويمكن تصور الملزوم بدون لازمة، وعدم شعور النفس بلازم لا يوجب عدم اللازم، فإن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه، وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا بد له إما أن يكون موجودا أو معدوما لامتناع الخلو عن النقيضين.
وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للممتنعات حجة على ثبوتها، ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع.
وهذا كما أن الإنسان يتصور علما مطلقا وقدرة مطلقة، مع علمه بأن ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة.
وكذلك يتصور الإنسان حيوانا مطلقا، ولا يتصور مع ذلك أنه ناطق أو بهيم، ولا يخلد ولا يموت، ولا يعلم ولا يجهل، ولا يعجز ولا يقدر، ولا يسكن ولا يتحرك، فهل يستدل بتصوره ذلك في عقله على أنه يوجد؟ أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها، فلا يموت ولا يخلد، ولا يقدر ولا يعجز؟
ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها ما لا وجود له في الخارج، تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم، وتارة مع وجود ما يطابقه، كمطابقة الاسم للمسمى، والعلم للمعلوم، [ ص: 138 ] وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج، ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية.
وإذا قيل في هذه الصورة: إنها كلية، فهو كقولنا في الاسم: إنه عام.
والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها، مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده، وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل، لا تحتاج إلى نظير، وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة، أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك، كان ذلك تقريبا وتمثيلا، وإلا فالحقيقة معلومة، وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه.