قلت: فهذا كلام وهو ونحوه كلام أمثاله من ابن سينا، القرامطة الباطنية، مثل صاحب "الأقاليد الملكوتية" وأمثاله من الملاحدة. والكلام على هذا من فنين:
أحدهما: بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفات، الذين سموا نفيها توحيدا، من الجهمية المعتزلة وغيرهم. [ ص: 19 ]
والثاني: بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه.
أما الأول، فإن هؤلاء وافقوه على وأن التوحيد الحق هو توحيد نفي الصفات، الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة، ولا كلام ولا رحمة، ولا يرى في الآخرة، ولا هو فوق العالم، فليس فوق العرش إله، ولا على السماوات رب، ومحمد لم يعرج به إلى ربه. والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره، إن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول، وأنه سبحانه لا ترفع الأيدي إليه بالدعاء، ولم يعرج شيء إليه، ولم ينزل شيء منه: لا ملك ولا غيره، ولا يقرب أحد إليه، ولا يدنو منه شيء، ولا يتقرب هو من أحد، ولا يتجلى لشيء، وليس بينه وبين خلقه حجاب، وأنه لا يحب ولا يبغض، ولا يرضى ولا يغضب، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه، وأنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده، بل كل الخلق عنده، بخلاف قوله تعالى: وله من في السماوات والأرض ومن عنده [الأنبياء: 19]، وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا، فهو حي بلا حياة، عالم بلا علم، قادر بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية "توحيدا"، ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد، كما يلقب الجهمية - من المعتزلة وغيرهم - أنفسهم بذلك، وكما لقب أصحابه بذلك، إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات: ابن [ ص: 20 ] التومرت جهم وأمثالهما. وابن سينا
ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى. ولهذا رأيت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في "مرشدته" شيئا من إثبات الصفات، ولا أثبت الرؤية، ولا قال: إن لابن التومرت ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة، ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول القرآن كلام الله غير مخلوق، ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق، موافقة وأمثاله من أهل الإلحاد، كما يقال إن لابن سينا ذكره في "فوائده المشرقية": إن ابن التومرت الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق، فوجود الخالق يكون مجردا، ووجود المخلوق يكون مقيدا.