الوجه الثاني أن يحل ما ذكره من المعارضة، وهي قوله: وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع، ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه، فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات، وليس علة لكل واحد من أجزائه، لاستحالة كونه علة لنفسه.
قلنا: لا نسلم أن وإذا كانت الموجودات، وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن، والواجب علة للممكن، لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات، بل علة لبعضها، وبعضها لا علة له. الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات، وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات، وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات،
فإن قيل: إنما قلنا الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد، فهو علة للهيئة الاجتماعية.
قيل: أولا: لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد.
ويقال: ثانيا: إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد، فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية، فالعلة مغايرة للمعلول، ليست العلة بعض المعلول. [ ص: 220 ]
وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة. ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة، وقد يعنى به اجتماعها، وقد يعنى به الأمران. ومعلوم أنه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة، وهذا هو المطلوب.
وأما الاجتماع إذا قدر أنه مغاير للأفراد، فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره، وإن أريد الإفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع، فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء، وهذا ممكن، فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات، ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايرا للأفراد، لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات.
فإذا قيل: إنه مبدع لسائر الموجودات، دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها، ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها، وهو الهيئة الاجتماعية، إذا قدر أنها موجودة، فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه، فهو داخل في سائر الموجودات سواه، فهو من جملة مصنوعاته.
ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمرا مغايرا للأفراد: أمرا يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات، فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع، وذلك الاجتماع حادث بحدوثه، فإذا قدر أن ما سوى الله حادث، فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضا حادث، وهو كمعية المخلوقات مع خالقها، وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء، بل هم متفقون على جواز حدوث النسب [ ص: 221 ] والإضافات بين الخالق والمخلوق، سواء قيل: إنها وجودية أو عدمية، ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي، كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم، فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب، كما أن الممكن نفسه معلول للواجب، والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع، بل هو بعض الأمور المجتمعة، وبعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكنا، وذلك الاجتماع هو بعض آخر، فالواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها، فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة، وهذا هو المطلوب انتفاؤه، فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات علة لجميع الممكنات، أعظم مما يتبين امتناع كونه علة لغيره من الممكنات، فإن الأول يقتضي كونه علة لنفسه، وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعا من كونه يخلق غيره بعد وجوده. ولهذا قال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [سورة الطور: 35] فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث، وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم، فعلم أن لهم محدثا أحدثهم.