فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة، كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام، كالأرموي وغيرهما. والأبهري
قالوا لهم: فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار، وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركا، فبطل دليلكم على حدوث الجسم.
وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار، وقلتم بحدوث [ ص: 386 ] الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفا على سبب حادث، بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلا، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم.
وحينئذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الأزلي تحرك بعد أن كان ساكنا من غير سبب أوجب ذلك، بل بمحض المشيئة والقدرة ؛ لأن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح: يرجح السكون تارة والحركة الأخرى.
فإن قالوا هم: نحن نقول: "يفعل بعد أن لم يكن فاعلا، فإذا قلتم: السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلا في الأزل لأمر وجودي. والفعل في الأزل محال".
قالوا لهم: نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمرا وجوديا، ولا أن نجعله فاعلا في الأزل لأمر وجودي، بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلا له من غير سبب حادث، لكن نزاعنا في الفعل: هل يقوم به؟ وفي الفاعل: هل هو جسم؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون، قلنا لكم: هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلا، والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلى سببه [ ص: 387 ] ومقتضيه. وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم، بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم، فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول، بخلاف العكس.
فإذا قالوا لهم: السكون أمر وجودي، فإذا كان أزليا كان له موجب قديم، فيمتنع زواله.
قالوا لهم: حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث، وإما أن لا يقف، فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام، وإن لم يقف فقد يقال: فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا وحدوث حادث يزيل أمرا عدميا، فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الأجسام، وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا، أو حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا.
وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته، وحينئذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته. وإذا كان الفاعل القادر المختار قادرا على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجودا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، كان قادرا على أن يجعل [ ص: 388 ] الساكن متحركا بدون سبب حادث أصلا، لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الأجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها، فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن.
ويقال لهم: لو خلق الباري تعالى جسما ساكنا ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث: أكان ذلك ممكنا أو ممتنعا؟
فإن قلتم: "يمتنع ذلك" بطل مذهبكم ودليلكم. وإن قلتم: "يمكن ذلك" قيل لكم: فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره.
فإنه يقال: السكون أمر وجودي، وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب.
وحينئذ فتجيء مسألة زوال الضد: هل هو بإحداث ضد آخر، أو بإحداث عدمه، أو بخلق فناء، أو نفس الأعراض لا تبقى؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك.
ومن قال: "السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئا فشيئا". قيل له: فكذلك إذا قدر السكون قديما فإنه لا يبقى زمانين، بل يحدث شيئا فشيئا، وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديما بنفسه، كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة: ليس هو قديما بنفسه.