ثم قال أبو المعالي: "وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين: إحداهما: الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها.
فنقول: كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده، ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به [ ص: 192 ] على زعمهم، فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون، إن كان يجوز الخلو من الألوان، وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض".
قلت: مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله، وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بينهما: أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده، فلهذا لم يخل منهما: فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل القياس، وإلا منع الحكم في الأصل، وقيل: بل يجوز خلوه بعد الاتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر، وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية، فلا تثبت بها دعوى كلية، ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك، فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن يخلفه كراهية وبغضة؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته؟
قال: "ونقول أيضا: الدال على أنها لو قامت به لم يخل عنها، وذلك يقضي بحدثه، فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوازا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارئ للحوادث". استحالة قيام الحوادث بذات [ ص: 193 ] الرب سبحانه وتعالى:
قلت: فلقائل أن يقول: هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة: إنكم إذا جوزتم ذلك لم يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث.
فيقال: إما أن يكون هذا لازما، وإما أن لا يكون لازما: فإذا كان لازما دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك، ولا دليل له أيضا ؛ فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلا لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعا، فكيف مع ظهور النزاع؟ وإن لم يكن لازما لهم لم يكن حجة عليهم.
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده.
الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب: