قال: "والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الإرادة القديمة، في كونه محلا لها، لكنه لا وجه لهذا التنزيه، كما سنتكلم عليه في فصل العلم، إذا قلنا في علمه: لم يعلم؟ وكيف يعلم؟.
قال: "فهذا أحد المذهبين" قال:، "وأما المذهب [ ص: 167 ] الآخر: فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه، فله سبب يوجب حدوثه، وذلك السبب حادث أيضا، حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة" وساق تمام قول هؤلاء، وهو قول أرسطو وأتباعه.
وقد نقل غير واحد أن وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر، وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات، حذرا من التغير والتكثر في ذاته، وذكر حجة أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو، أرسطو ونقضها. وابن سينا
وقال: "فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات ؛ فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته [ ص: 168 ] وذاته، ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته".
قال: "ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا مدركاته وإضافاته، فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي "لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لم تطلبه الحجة، ولم يمنعه البرهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى".
وتكلم على قول أرسطو، إذ قال: من المحال أن يكون كماله بعقل غيره، إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل [ ص: 169 ] فلا يتغير، والتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما، فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل، لكن بالقوة، فقال أبو البركات: "ما قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم: فهو غير لازم في التغير مطلقا، بل هو غير لازم البتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، وفي بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية".
قال: "وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان، على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيهما أبدا، [ ص: 170 ] وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك، والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة، لا قبلها: كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية، وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع، ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم التغيرات النفسانية أيضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات، فالحكم الجزئي لا يلزم كليا، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة".