فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا في جواب ما هو؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه. ولذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به: لا ماهية له؛ لأن ما لا ماهية له لا ذات له.
قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم: [ ص: 268 ] إنه نور، فإنه فقال تعالى: الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، الله نور السماوات والأرض مثل نوره الآية [النور: 35]، وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه؛ فإنه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه.
وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره من النظر إليها أو إليه. [ ص: 269 ]
وفي كتاب مسلم: إن لله حجابا من نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره.
قال: وفي بعض روايات الحديث: سبعين حجابا من نور.
فينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الأفهام، مع أنه ليس بجسم، والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير المحسوس. والنور لما كان هو أشرف المحسوسات، وجب أن يمثل لهم به أشرف الموجودات. [ ص: 270 ]
فيقال: هذا الرجل يرى رأي ونحوه من المتفلسفة ابن سينا والباطنية، الذين يقولون: إن الرسل أظهرت للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك؛ إذ كانت الحقيقة لو أظهرت لهم لما فهم منها إلا التعطيل، فخيلوا ومثلوا لهم ما يناسب الحقيقة نوع مناسبة، على وجه ينتفعون به. في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها، مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علما ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المورث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية والدهرية، ونحوهم من حزب التعطيل والجحود. وأبو حامد
وما ذكره هذا في النور أخذه من مشكاة وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد. أبي حامد،