الوجه الرابع: قوله: واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقا، بل بمشاركة ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل، كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك. إلى قوله: وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل، مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟
فيقال له: هذا تلبيس لا يروج إلا على جاهل أو متجاهل، فإن هنا أمرين: أحدهما: الشيء الموجود في الخارج، وهذا هو الذي يقال: إن تعقله ارتسام صورته في العالم. والثاني: نفس الصورة العلمية التي في العاقل المطابقة لهذا المعلوم، فهذه الصورة لم يقل أحد: إنها تفتقر إلى صورة أخرى، فإن هذه هي العلم.
وهم قالوا: إن [ ص: 53 ] اللهم إلا إذا قيل: إن ذلك العلم صار معلوما، فتكون له صورة من حيث هو معلوم، لا من حيث هو علم. العلم صورة مطابقة للمعلوم. والعلم من حيث هو علم لا يجب أن تكون له صورة غير نفسه في العقل تطابقه،
وقوله: إنك تعقل شيئا بصورة تتصورها وتستحضرها، فهي صادرة عنك، وأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضا بنفسها.
فيقال: قوله: صادرة عنك إنما تعرف فيما يفعله الإنسان.
أما حصول الصورة العلمية في نفسه، فهذا قد يكون ضروريا حصل بغير فعل منه، وإن كان نظريا فهو ضروري بعد وجود سببه.
ولهذا من يقول: المتولدات ليست مكتسبة، يجعل جمهورهم العلوم كلها ضرورية، كما قال أبو المعالي: والمختار عندنا أن العلوم كلها ضرورية.
وحينئذ فلا تكون تلك الصورة العقلية صادرة عنه، بل هي حاصلة في ذاته بغير اختياره.
وعلم الرب القديم اللازم لذاته، كعلمه بنفسه، لا يقال: إنه صادر عنه ولا مفعول له، بل هو كحياته. ولكن ما يتجدد من سمع وبصر وعلم بالكائن كائنا، فهذا من أثبته فإنه يمكن أن يجعله صادرا عنه.
وأما علمه بالأشياء التي يريد أن يفعلها قبل فعلها، فهذا للناس فيه كلام بحسب تنازعهم في هذا الأصل.
وعلى كل قول، وبكل تقدير، ليست صورة المعلوم التي خلقها [ ص: 54 ] وأبدعها هي نفس علمه به، وإذا سمي العلم صورة عقلية، فليس هذا هو ذاك.
وإذا قيل: إن عقل العاقل للصورة الموجودة، لا يكون إلا بصورة عقلية، لم نقل: إن الصورة العقلية لها صورة أخرى.
ولكن للناس هنا نزاع. وهو أن العلم بالعلم هل يحصل بالعلم أم لا بد من علم ثان؟ وكذلك العلم الثاني هل يفتقر إلى ثالث؟ فمن أثبت ذاك بطلت الحجة على قوله. ومن نفى ذاك، قال: العلم يعلم به غيره، فلأن يعلم هو بنفسه بطريق الأولى، كالنور الذي يرى به غيره، ويرى هو بنفسه، فلا يلزم إذا احتاج ما ليس بعلم إلى صورة عقلية، أن يحتاج نفس العلم إلى صورة عقلية غير العلم، بل من علم شيئا علما تاما، علم أنه عالم. ومن نصر القول الأول يقول: قد يعلم المعلوم ويذهل عن كونه عالما به.
فإن قيل: هذا لا يتصور في حق الله تعالى، فإنه يعلم المخلوقات، ويعلم أنه عالم بها، فإذا كان العلم بكونه عالما، ليس هو العلم بالمعلوم المنفصل، لزم وجود علوم لا تتناهى.
وهذا هو الذي احتج به الطوسي. فيقال: ومن صفاتها كونه عالما بهذا وهذا، فعلمه بنفسه يتضمن العلم بكونه عالما بالمعلومات، وهذا العلم ليس هو العلم بالمعلومات المخلوقات، لكن هو مستلزم له، فعلمه تعالى بنفسه مستلزم للعلم بجميع صفاته، يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، [ ص: 55 ] فليس هناك علمان متباينان، بخلاف علمه ومخلوقه المعلوم، فإن هذا مباين لهذا. علمه بنفسه يوجب كونه عالما بصفاتها،
والعلم محله نفسه المقدسة، والمخلوق ليس بمباين له، فكيف يكون هو إياه؟ وهو سبحانه يعلم الشيء قبل وجوده، فيكون العلم به موجودا، والمعلوم لم يوجد بعد.
وهذا بخلاف علمه، وعلمه بعلمه. فإنه يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، فيمكن أن يقال: علمه بنفسه يتضمن العلم بعلمه، فلا يوجد بدونه، كما يوجد علمه بالمخلوقات قبل وجود المخلوق.