وأرسطو وأتباعه إنما زعموا افتقاره إلى الغاية المنفصلة عنه، ولم يذكروا احتياجه إلى الفاعل المنفصل عنه.
ومعلوم أن الموجب لحدوث الحركة يحدثها شيئا بعد شيء، فلا بد له من محدث منفصل، كما أنه لا بد له من غاية منفصلة بطريق الأولى، فإن جوز المجوز أن يكون هو المحدث لفعله، من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا، فلنجوز أن يكون هو غاية لنفسه من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا، وذلك ممتنع عندهم.
وأيضا فمن المعلوم أن الممكن الذي ليس له شيء من نفسه، بل ذاته نفسها من غيره يمتنع أن يكون شيء من أفعاله من نفسه، بدون افتقاره في ذلك إلى غيره، كما يمتنع أن تكون صفاته وأبعاضه من نفسه، من غير افتقار في ذلك إلى غيره.
فإن ما به يعلم أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون بنفسه موجودا، يعلم أن سائر ما يحصل له من الصفات والأفعال لا تكون بنفسه، فإن ما لا يوجد بنفسه بل بغيره، كيف يكون موجدا لغيره بنفسه بدون غيره؟
[ ص: 271 ] والكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في مسألة خلق أفعال العباد، فكلما نعلم فإن أن الله خالق أفعال العباد نعلم أنه خالق حركات الفلك إذا قدر أنها اختيارية، وإن قدر أنها اختيارية كان الأمر أولى وأولى، القدرية تنازع في الأول، لا تنازع في الثاني.
وليس لقائل أن يقول: إن هؤلاء الفلاسفة، كأرسطو وأتباعه، قد يسلكون في حركات الأفلاك الاختيارية مسلك القدرية، الذين لا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد.
لأنه يقال: أولا: ليس هذا مذهبهم، بل عندهم أن أفعال الحيوان وغير ذلك من الممكنات صادرة عن واجب الوجود، وهذا هو الموجود في كتب الذين نقلوا مذهبهم، وأمثاله. كابن سينا
وأيضا فيقال لهم: إما أن تجوزوا على الحي أن يحدث الأفعال من غير سبب من خارج يقتضي حدوث تلك الأفعال، لست أعني من غير مقصود يحدث، بل من غير مقتض للفعل، وإما ألا تجوزوه.
فإن لم تجوزوا على الحي ذلك، لزمكم أن الفلك الحي عندكم لا تحدث حركته إلا بسبب منفصل، يكون مقتضيا لفعل الحدوث، لا يكفي أن يكون ذلك متشبها به. ثم القول في حدوث اقتضاء ذلك المقتضى، كالقول في حدوث حركة الفلك، فيلزم أن يكون فوق الفلك سبب فاعل للحوادث، وذلك يبطل قولهم. فإنه ليس عندهم فوق الفلك حركة ولا فعل بوجه من الوجوه.
وإن جوزوا على الحي أن يحدث الأفعال بغير سبب حادث من غيره، [ ص: 272 ] لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره.