قالوا: فإن قيل: (مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها.
قلنا: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى: ما لا يحصره عدد، ولا يحصيه أمد. والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض، وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر).
وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج، فليس هو الساعة داخلا في الوجود، وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج، فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود، وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه، فقد استوى هذا وهذا في الدخول والخروج، وفي العدم الآن. لكن دخول هذا وخروجه ماض، ودخول هذا وخروجه مستقبل، وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما، فهما اشتركا فيه، لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان، فما من [ ص: 184 ] حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال، فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده، ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله، فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل، وهكذا كل حادث.
وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال، لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله، وكلا الأمرين منتف هنا. والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا، فإما أن يصحا جميعا وإما أن يبطلا جميعا.
ولهذا كان من طرد هذا الدليل، وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات: إمام الجهم بن صفوان الجهمية، وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة، كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي.