وقد ذكر أنه مخالف لقول ابن رشد أرسطو ومتقدمي الفلاسفة؛ ولهذا [ ص: 116 ] لزم وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه ابن سينا الرازي. وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي، وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل، وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل، فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا. وهذا قول جمهور العقلاء.
وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب، كما ذكره وغيره. وأما كلامهم فيه، في المنطق وغيره، فوافقوا فيه سلفهم، ابن رشد أرسطو وأتباعه وسائر العقلاء، وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثا مسبوقا بعدم نفسه، وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة، وجعلوا قسيم الممكن العامي، هو الضروري الواجب وجوده، وهو القديم الأزلي، وصرحوا بأن ما كان قديما أزليا يمتنع أن يقال: إنه ممكن يقبل الوجود والعدم.
وممن صرح بذلك وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات [ ص: 117 ] وأحدثوا مذهبا ركبوه من مذهب سلفهم ابن سينا -أرسطو وأتباعه- ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم، وقسموا الوجود إلى واجب ممكن، كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث.
وهذا التقسيم ابتدعوه، لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة، بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض، كما هو معروف في كتاب «قاطيغورياس»، وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر.
وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن، وقالوا: الوجود إما واجب، وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة، وأنها غاية عقول العقلاء، وهي من أفسد الطرق، لا تدل على إثبات مبدع للعالم ألبتة، فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين، ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه، وهذا ممتنع على طريقهم.
فإنهم إذا قالوا: الموجود إما أن يقبل العدم، وإما أن لا يقبله، وما قبل العدم فهو الممكن، ولا بد له من واجب.
قيل لهم: إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث، كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات. وهذا حق، ولكن القديم عندكم قد يكون واجبا وقد يكون [ ص: 118 ] ممكنا، فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب.
وإن قلتم: إن الممكن لا بد له من واجب.
ولو قدر أن له فاعلا، لكان هذا مما يعلم بنظر دقيق خفي، فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفا على مثل هذه المقدمة. قيل لكم: فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل. وأما ما جعلتموه قديما أزليا، وسميتموه ممكنا، فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل، بل عامة العقلاء يقولون: إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل.
فإن قالوا: نحن قد قررنا أنه ممكن، ولا بد للممكن من واجب. قيل: أنتم جعلتموه ممكنا قديما أزليا، وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين، وهو ممتنع. والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع. وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي، وهذا حق.
والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجبا، ويمكن أن يكون ممكنا. وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب، فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه، كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه.
وإن قلتم: إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر، وهو الواجب؛ لانحصار الموجود في الواجب والممكن، كما بيناه.
قيل لكم: كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن، فلم يثبت نفيه، بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه. [ ص: 119 ]
فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب، لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن، وأمكن أن يقال الوجود كله واجب، كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول: عين وجود ما يسمى ممكنا ومحدثا هو عين وجود الواجب، فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن، هو نوعان: قديم ومحدث.
وهذا الكلام لا فائدة فيه، بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم، والشك في وجود الواجب، أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم، وهو باطل قطعا، فليس فيه إلا الجزم بالباطل، أو الشك في الحق، أو يقولوا: إن الموجود يمكن أن يكون كله واجبا، ويمكن أن يكون ليس فيه واجب، بل هو إما محدث وإما قديم ممكن.
ومعلوم أن كلا القولين معلوم الفساد بالضرورة، وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت، وهذه ممكنات، وأنه لا بد لها من قديم أزلي، والقديم الأزلي يجب وجوده، ويمتنع أن يكون ممكنا. وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهذا كله يناقض ما قالوه.
ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم، كالرازي من البحوث المضطربة، في الواجب والممكن والعلة والمعلول، ما ليس هذا موضع بسطه، وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع. والآمدي،