وأما فهي مقدمة مشتركة الاسم. المقدمة الثالثة: وهي القائلة: إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث،
وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين: أحدهما ما لا يخلو من [ ص: 86 ] جنس الحوادث ويخلو من آحادها، والثاني: ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه.
كأنك قلت: ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي، فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق، أعني: ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه.
وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثا؛ لأنه إن كان قديما فقد خلا من ذلك العرض، وقد كنا فرضناه لا يخلو، وهذا خلف لا يمكن.
وأما المفهوم الأول، وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل. أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث؛ لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد -أعني الجسم- تتعاقب عليه أعراض غير متناهية: إما متضادة، وإما غير متضادة. كأنك قلت: حركات لا نهاية لها، وحركات وسلوبات لا نهاية لها، كما يرى كثير من القدماء في [ ص: 87 ] العالم، أعني أنه يتكون واحد بعد واحد.
ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة راموا شدها وتقويتها، بأن بينوا -في زعمهم- أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها. وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها، وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها، أعني المشار إليه؛ لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له. ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي، وجب ألا يوجد المشار إليه، أعني المفروض موجودا.
مثال ذلك: أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي، إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها، فقد كان يجب ألا يوجد ذلك. ومثلوا ذلك برجل قال لرجل: لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لا نهاية لها. قالوا: فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبدا).
قال: (وهذا التمثيل ليس بصحيح؛ لأن في هذا التمثيل وضع [ ص: 88 ] مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه؛ لأن قوله وقع في زمان محدود، وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود، فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان، الذي تكلم فيه، أزمنة لا نهاية لها، وهي التي يعطيه فيها دنانير لا نهاية لها، وذلك مستحيل. فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها.