ومما يبين الفرق بين المعين والمطلق، ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة. فإن وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء، وهي ثلاث روايات عن المبيع قد يكون معينا وقد لا يكون، والمعين قد يكون مشاهدا، فهذا يصح بيعه بالإجماع. وقد يكون غائبا، أحدها: أنه لا [ ص: 12 ] يصح بيعه، كظاهر مذهب أحمد: والثاني: يصح، وصف أو لم يوصف، كمذهب الشافعي. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة. والمشهور من مذهب مالك أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدونها. أحمد:
انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء، ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله؛ لأن حقه تعين في عين معينة. وأما المبيع المطلق في الذمة، فمثل دين السلم. فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه. وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين، وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة، كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك. ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضه بآفة سماوية،
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك. فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين، بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود. ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه، كان للمستحق المطالبة بعين أخرى.
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق، كهدي التمتع والقران والهدي المعين، كما فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله. لو نذر هديا بعينه، فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه، لم يكن عليه بدله، بخلاف ما وجب في الذمة.
وكل موجود في الخارج فهو في نفسه معين. لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه، وقد لا يكون مع العلم بعينه، كالمبيع إذا كان مشاهدا فقد عرف المشتري عينه، وإذا كان غائبا فهو معين في نفسه، والمشتري لا يعرف عينه، وإنما يعرف منه أمرا مطلقا، سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه، أو يحتمله ويحتمل غيره، فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من [ ص: 13 ] صفتها كذا وكذا، ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها، وهذا بخلاف المسلم فيه، فإنه لا يكون معينا، ومتى كان معينا بطل السلم، كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه، أو زرع أرضا بعينها، قبل بدو الصلاح، كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا تبين هذا فإذا عرف ثبوت محدث للحوادث واجب قديم، وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق، أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان، مثل أنه رب العالمين، وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك -فقد تعرف عينه بالعقل- عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه، فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه، بخلاف ما يمكن الشركة فيه.
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، ويقول: التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات، فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره.
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية، أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم، إنما يثبتون وجودا مطلقا لا يعين ولا يشار [ ص: 14 ] إليه، بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين، وهؤلاء يثبتون وجودا مطلقا كليا، لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم؛ ولهذا يبقون في حيرة واضطراب، تارة يجعلونه حالا في المخلوقات لا يختص بشيء، وتارة يسلبونه هذا وهذا، ويقولون: الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين، ونحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج، فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره، مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره.
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم، وهم يظنون أن ما ذكروه ثابت في الخارج، لكنهم ضالون في ذلك. وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنونا ثابتة في الأعيان. ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال، وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل -كالمطلقات الكلية ونحوها- أمورا موجودة ثابتة في الخارج، وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل، وذلك ضلال.
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة، ليس مما لا يمكن الإحساس به، لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت، وفي الدار الآخرة. وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان. [ ص: 15 ]
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة، بأن أحدهما معقول والآخر محسوس، كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية، ومن شركهم في بعض ذلك، وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن، والآخر غائب عنا لا نشهده الآن؛ ولهذا سماه الله تعالى غيبا.
قال تعالى: الذين يؤمنون بالغيب [سورة البقرة: 3]، لم يسمه معقولا، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.