[ ص: 440 ] قال: (فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق. قال: وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم) .
فهذا القول يحقق التي هي المعرفة بالله والإقرار به، كل مولود يولد على الفطرة، وفيه زيادة: أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب القول الأول في أن آدم. وقد فسر (فطرة الله) في الحديث بذلك.
وأما قول صاحب هذا القول: (إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب) فهذا لا يضر، فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية، وأنه بذلك صح أن يأمرهم، فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره. ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه: أدعوكم إلى الله، لقالوا مثل ما قال فرعون: وما رب العالمين؟ إنكارا له وجحدا، كأن يكون قولهم متوجها.
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق، لكن أظهر خلاف ما في نفسه. كما قال تعالى: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [سورة النمل:14]، وكما قال له موسى: [ ص: 441 ] لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [سورة الإسراء:102].
ولهذا قال تعالى: ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى [سورة إبراهيم:9-10]، فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا: وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك الآية [سورة إبراهيم:9-10].
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والإنكار على من لم يقر بهذا النفي. والمعنى: ما في الله شك، وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك، ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد.
فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار، وإلا فالأمر النظري مستلزم للشك قبل العلم، لاسيما إذا كانت طرقه خفية طويلة، فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه، فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك، فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق، وهم [ ص: 442 ] جمهور الخلق، بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضا إذا عرف حقيقتها.
قال (وقال آخرون معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عبد البر: لم يرد رسول الله -صلى عليه وسلم- بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا، ولا معرفة ولا إنكارا، وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية، ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. « كل مولود يولد على الفطرة»