فقول القائل: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه، استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء.
يقال له: هم لا يقولون: إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ. فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل، ولكن يقولون: إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ، وهذا لا يقولون فيه: إنه لم يزل موجودا.
فالذي يقولون: إنه لم يزل، ليس هو الذي يقولون: إنه مستفتح [ ص: 344 ] مبتدأ. وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات: إن كل واحد منها فان منقض، والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم. كما قال تعالى: أكلها دائم [سورة الرعد:35]، وقال: إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [سورة ص:54]. فالجنس دائم لا نفاذ له، وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفد لا يدوم.
ولما تفطن كثير من أهل الكلام، لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام، وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع، ميزوا بين النوعين، كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني، والشهرستاني، والرازي وغيرهم. فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث، وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها. فأخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه، وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع.
ولهذا جعل أبو الحسين وأبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على أربع مقدمات: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وإثبات استلزام الجسم لها، واستحالة حوادث لا أول لها.
وجعلوا النتيجة: أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة، بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من [ ص: 345 ] الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم، حيث جعلوا المقدمات أربعا: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وإثبات استلزام الجسم لها، والرابعة: أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وهذه هي النتيجة، وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث، لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا، واللفظ مجمل كما ترى.