وأيضا، فإن فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة، كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا: إما عدم العلم، أو حصول ضده [ ص: 320 ] من اعتقاد الباطل، فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والإيمان، موجبا لضده من الجهل والكفر. العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام، وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع،
والوجه الثاني: أن يقال: فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك، مبنيا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة. ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يبينوا ذلك.
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطرب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه:
فقالت طائفة: إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ، وهي الجواهر المنفردة، وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية.
وقالت طائفة: بل فيها أجزاء لا نهاية لها، وهو المذكور عن النظام. وعليه انبنى القول بطفرة النظام. ولهذا يقال: ثلاثة لا يعلم لها حقيقة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.
وقالت طائفة: بل هي مركبة من المادة والصورة، وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية، لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها. [ ص: 321 ]
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ.
وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا تتجزأ إلى غير غاية. بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر، مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب.
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية، ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام، بل كل ما وجد يقبل الانقسام، لكنه يستحيل إلى جسم آخر، في حال تميز جانب منه عن جانب، فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية. وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع.
وأذكياء المتأخرين: مثل أبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي: كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد. فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان، باعتبار تركبه من الجواهر، أو المادة والصورة، حتى يثبت ذلك أولا.
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من [ ص: 322 ] الأجسام، ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب، الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء.
الوجه الثالث: أن يقال: حدوث ما يشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة، وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار، وما يخرجه من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان.
فإذا قيل له: هذا لم يحدث، ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت، وجعل لها صفة غير تلك الصفة.
قال: أما ما تغيرت صفاته، كتغير الأبيض إلى السواد، والساكن إلى الحركة، والحامض إلى الحلاوة، والمفرق إلى الاجتماع، وتغير الجسم من شكل إلى شكل، كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله، وما يشبهه، يشهد فيه أن العين باقية، وإنما تغيرت صفاتها التي هي: الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والألوان والطعوم والأشكال. بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة، والجنين الذي يخرج من بطن أمه، والفروج الذي يخرج من البيضة، فإن [ ص: 323 ] عاقلا لا يقول: إن نفس الرطبة فيها جرم الخشب باقيا، ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية، ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا.
ومن قال: إن هذا باق في هذا، كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه، وحلا بعد حموضته، وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق - فهو لا يتصور ما يقول، أو هو معاند مسفسط. فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض. وهذا أصل كل ضلال، وهو الجهل أو العناد، والعناد وصف المغضوب عليهم، والجهل وصف الضالين.
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة. وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع.