ونحن كثيرا ما نقصد مع أنا نبين أيضا أن تلك الطرق فاسدة، لكن بيان الاستغناء عنها في مقام، وبيان فسادها في مقام. بيان أن الطرق التي خالف سالكها شيئا من النصوص غير محتاج إليها، بل مستغن عنها، ليتبين أن العلم بصدق [ ص: 304 ] الرسول، وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة، ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به،
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولا، ثم يعارضون بها النصوص ثانيا، فنحن نبين الغنى عنها، ثم نبين فسادها ثانيا، ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة، هي والأدلة السمعية متلازمان، فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر.
وهذا قدر زائد على عدم تنافيهما، وعدم تنافيهما وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما.
وأيضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع، فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع.
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول: إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك، يستلزم قدح الشرع في أصله.
وطريقة وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره القاضي أبي بكر أبو الحسين، بل ذكر أولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وأن ما قدم من الحوادث وأخر، لا بد له من مقدم ومؤخر، من غير أن يحتاج أن يقول: إن الحدوث: إما أن يكون واجبا، وإما أن يكون غير واجب، وهذا أصح وأقرب وأبين.
ثم إن طريقة التي في "اللمع" خير من [ ص: 305 ] طريقة أبي الحسن الأشعري القاضي، فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث، ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت، والتخصيص لا بد له من مخصص، فإن هذا وإن كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا.
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين، أو تخصيصه بصفة دون صفة، هو موجود في نفس الحدوث، فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات، لا بد له من مخصص، ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل، ولو قدر أنه لم يحدث غيره، ولا يمكن حدوث غيره، وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث، فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه، من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس.
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس، حتى الصبيان، حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه. وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال، دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء، وبيان [ ص: 306 ] ذاك بهذا، من باب بيان الأجلى بالأخفى.