ثم وقد بين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب. [ ص: 221 ] إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة، وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم، الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته، لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك، وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك،
قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان، وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها، والمراد بأمره بالحركة: كونه محبوبا لها، أي تحب أن تتشبه به، لا أنها تحب ذاته، كما ذكره سلفه وابن رشد الفلاسفة الذين بين طريقهم، وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نوابه في مملكته بأوامر، وكل واحد يأمر من دونه، وكلها ترجع إلى الآمر الأول.
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين: لا صفاتهم ولا أفعالهم، بل الملك الآمر له شعور بأمره، وطلب من المأمور، وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به، فليس في هذا صدور أمر من آمره، ولا شعور بالمحب المشتاق، ولا طلب لفعل منه.
قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها، بأنها لو كانت موجودة من ذاتها، أي قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير، وألا تطيعه، كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول، وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها. لا في عرض من أعراضها. [ ص: 222 ] وابن رشد
فيقال له: أنت لم تقرر أنه آمر لها، وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها، أي تحب التشبه به، وهب أنه آمر لها، فأنت لم تذكر دليلا على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة، إلا قولك: (إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية) . وهذه دعوى مجردة.
فلم لا يجوز أن يقال: تلك العبودية زائدة على الذات؟
وقولك: (إنها تقومت بالعبودية) : إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها، فهذه دعوى أرسطو، وقد علم ما فيها. وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة، بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها.
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى، فهذا هو المطلوب، ولم تذكر عليه حجة.