وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وصاروا يقولون: إنه منزه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والمقدار، والحد، ونحو ذلك. ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات، وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به، وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه، ومباينته لهم، وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته، ونفي الصفات الخبرية: كالوجه، واليدين، ونحو ذلك، [ ص: 99 ] مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض. ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة، فإن مسألة افتقار الحادث إلى المحدث، أبا الحسن لما قال: الدليل على أن للخلق صانعا صنعه، ومدبرا دبره؟ واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم، فسر قوله بوجهين: القاضي أبو بكر
أحدهما: أنه يريد بالخلق: التقدير. وكل جسم فله قدر، فيكون المعنى: ما الدليل على أن لكل جسم قدرا من الأقدار، قدره مقدر؟ لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري، ولا بنى كلامه على إرادته، وإنه لم يذكر دليلا على ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون الخلق: بمعنى الإبداع والاختراع، وجعل الشيء شيئا عينا بعد أن لم يكن كذلك.
وهذا هو الوجه الذي أراده، لكن اعترض عليه بعض المعتزلة، وأظنه بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق. وأراد [ ص: 100 ] القاضي عبد الجبار، عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري، وتصحيح طريق شيوخه، وهو إثبات حدوث الأجسام أولا، ثم إثبات المحدث بعد ذلك.
وليس الأمر كما ذكره عبد الجبار، بل قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها الأشعري المعتزلة عمدا، مع علمه بها، كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر، وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة، وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان، لأن ذلك أمر مشهود معلوم، والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها.
لكن لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة الأشعري للمعتزلة في حدوث الأجسام، فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة، فهو يقول إن فيها تطويلا وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع، فلا يحتاج إليها ابتداء، ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها، بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال، فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له، وأن الأعراض حادثة النوع.