وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع، وفصلنا القول فيها. وبينا منشأ الغلط، فإن الطائفتين اتفقوا على أن والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به، والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به. الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل.
وهذا الذي اتفقوا عليه حق، لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك. لكن الشارع عرف بالموجود، وأثبت المفقود. فتحسينه: إما كشف وبيان، وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان.
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب، والقبح ما حصل به الذم والعقاب، ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان، والذم والعقاب مناف للإنسان.
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة، والمحبة، [ ص: 23 ] والرضا، بل جعلوا كل مراد محبوبا مرضيا. ثم قال هؤلاء: الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوبا باتفاق المسلمين، فلا يكون مرادا، فيكون وقوع ذلك بدون إرادته، فيكون في ملكه ما لا يريده، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون. إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع،
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. والكفر والفسوق والعصيان. مراد له فيكون محبوبا مرضيا، فيكون محبا راضيا بالكفر والفسوق والعصيان، فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وإن لم يلتزموه.
وأولئك قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، فلزمهم أن يكون عاجزا مغلوبا، وإن كانوا لا يكرمون عجزه.
فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك، وأولئك لم يجعلوا له الحمد، والله تعالى له الملك وله الحمد. هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته، وأنه معبود محمود حكيم عادل، فقصروا في ذلك، ونقصوه موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته. وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته، لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته، ورحمته وحمده. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.