[ ص: 215 ] وكذلك وإنما يقول هذا بعض الغالطين، ويحكيه طائفة عن طائفة غلطا عليهم، بل أوجب عليه أن يفعل هذا أو هذا، وهو كما قال اتفق العقلاء المعتبرون على أن الواجب ليس معينا في نفس الأمر، وأن الله لم يوجب عليه ما علم أنه سيفعله، كل شيء في القرآن «أو..» «أو» فهو على التخيير، وكل شيء في القرآن «فمن لم يجد» فهو على الترتيب. والله يعلم أن العبد يفعل واحدا بعينه مع علمه أنه لم يوجبه عليه بخصوصه. ابن عباس:
ثم اضطرب الناس هنا: هل الواجب الثلاثة، فلا يكون هناك فرق بين المعين وبين المخير، أو الواجب واحد لا بعينه، فيكون المأمور به مبهما غير معلوم للمأمور؟ ولا بد في الأمر من تمكن المأمور من العلم بالمأمور به والعمل به، والقول بإيجاب الثلاثة يحكى عن المعتزلة، والقول بإيجاب واحد لا بعينه هو قول الفقهاء.
وحقيقة الأمر: أن الواجب هو القدر المشترك بين الثلاثة، وهو مسمى أحدها.
فالواجب أحد الثلاثة، وهذا معلوم متميز معروف للمأمور، وهذا المسمى يوجد في هذا المعين وهذا المعين وهذا المعين، فلم يجب واحد بعينه غير معين، بل وجب أحد المعينات، والامتثال يحصل بواحد منها وإن لم يعينه الآمر.
والمتناقض هو أن يوجب معينا ولا يعينه، أما إذا كان الواجب غير معين بل هو القدر المشترك، فلا منافاة بين الإيجاب وترك التعيين. [ ص: 216 ]
وهذا يظهر بالواجب المطلق، وهو الأمر بالماهية الكلية، كالأمر بإعتاق رقبة، فإن الواجب رقبة مطلقة، والمطلق لا يوجد إلا معينا، لكن لا يكون معينا في العلم والقصد، فالآمر لم يقصد واحدا بعينه، مع علمه بأنه لا يوجد إلا معينا، وأن المطلق الكلي عند الناس وجوده في الأذهان لا في الأعيان، فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معينا مشخصا مخصوصا متميزا في الأعيان، وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كليا، وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلا.
وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم، فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه، فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه، كما تقدم، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس، حتى في وجود الرب تعالى، وجعلوه وجودا مطلقا، إما بشرط الإطلاق، وإما بغير شرط الإطلاق، وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج.