وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق. [ ص: 375 ] دلائل المعاد وبراهينه
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، والأول أعظم الطريقين، فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده. فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع.
كما قال تعالى في سورة البقرة: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون [سورة البقرة: 55 ، 56]، فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية.
وقال في قصة البقرة: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [سورة البقرة: 73].
وقال في الذين خرجوا من ديارهم: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس [سورة البقرة: 243]، الآية! - وهي قصة معروفة.
وقال تعالى: [ ص: 376 ] أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير [سورة البقرة: 259]، فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام، وموت حماره، ومعه طعامه وشرابه، ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد، وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة، وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم، وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات.
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [سورة البقرة: 260]، فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة، ثم أحيى الأطيار، وميز بين هذا وهذا، وجعلهن يأتين سعيا إجابة [ ص: 377 ] لدعوة الداعي، فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل.
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين، وقصة في إحياء البهائم، وقصة في إبقاء الطعام والشراب، وقصة في إحياء الطير. وذكر في [غير] موضع إحياء المسيح [صلى الله عليه وسلم] للموتى، وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا.
وقال في القصة: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها [سورة الكهف: 21].
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى. وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول، ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول، وإخباره بها من أعلام نبوته، كما قد بسط في موضع آخر. [ ص: 378 ]
وأما الصنف الثاني، وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى، فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارة بخلق النبات، ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على [إنبات] النبات. وتارة يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه، وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى.
وتارة يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض، كما في قوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [سورة الحج: 5 - 7].
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان.
وقال تعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [سورة الأعراف: 57]. [ ص: 379 ] فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم.
وقال تعالى: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [سورة ق: 9 - 11].
وقال تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [سورة فاطر: 9] وقال تعالى: أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [سورة الواقعة: 58 - 62].
وقال تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [سورة يس: 81].
وقال [تعالى]: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [سورة الأحقاف: 33].
وقال تعالى: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [سورة الروم: 27]. [ ص: 380 ]
وقد بين سبحانه من وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه، كما في قوله: حجج منكري المعاد، والجواب عنها وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون [سورة يس: 78 - 80].
إلى آخر الآيات، وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه.
فأما الآية التي ذكرها القائل المتقدم، وهي قوله: أفعيينا بالخلق الأول [سورة ق: 15].
فإن العرب تقول: عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه، ويقول الرجل: عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو.
وقال الشاعر:
عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامه
فالعيي بالأمر يكون عاجزا عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه.
فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه، وأن ذلك معلوم عند المخاطب: أفعيينا بالخلق الأول [سورة ق: 15]، فلم نكن عالمين بما نصنع فيه، ولا قادرين عليه؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا، وأتينا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا؟
وهذا نظير قوله: [ ص: 381 ] أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [سورة الأحقاف: 33].