فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل لا على الحق، ولم يبين مراده، وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في معرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم، فقد قدح في الرسول، كما نبهنا على ذلك في مواضع.
كيف وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد. والرسول أعلم الخلق بالحق، وأقدر الناس على بيان الحق، وأنصح الخلق للخلق؟
فإن ما يقوله القائل ويفعله الفاعل لا بد فيه من قدرة وعلم وإرادة، فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه، والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم، وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدى والنصح والصلاح، فإذا كان المتكلم عالما بالحق قاصدا لهدي الخلق قصدا تاما، قادرا على ذلك؛ وجب وجود مقدوره، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وهو أفصح الخلق لسانا، وأصحهم بيانا، وهو أحرص الخلق على هدي العباد، كما قال [ ص: 24 ] تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة: 128]، وقال: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [النحل: 37]، وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره، فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق، بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة على جهله ونقص علمه وعقله؟! وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول، أو أن الرسول لم يقل مثل هذا، واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين، وأنه يشتمل على العلوم الكلية والمعارف الإلهية ، والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية ـ صار كثير منهم يقول: إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين، أو لم يبين أصول الدين، ومنهم من هاب النبي، ولكن يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك، ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائرا كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم؟ ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلى غيرها؟ .