[ ص: 99 ] 734 - باب بيان مشكل ما اختلف العلماء فيه من المراد بقول الله عز وجل : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، مما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبب الذي كان نزولها فيه ، ومما تأوله بعضهم عليه .
4685 - حدثنا ، حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، عن أبو عبد الرحمن المقرئ ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثني يزيد بن أبي حبيب أسلم أبو عمران ، قال : بالقسطنطينية وعلى أهل مصر ، وعلى عقبة بن عامر أهل الشام رجل فخرج من المدينة صف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيه ، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة ، فقام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل ، إنما أنزلت فينا معشر أبو أيوب الأنصاري الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا لبعضنا بعض سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أقمنا [ ص: 100 ] فيها وأصلحنا منها ما قد ضاع ، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما قد هممنا به ، فقال : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأمرنا بالغزو ، فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله تعالى كنا .
ففي هذا الحديث ، أن التهلكة المذكورة في هذه الآية هي التهلكة في الدين ، والتهلكة والهلك واحد في كلام العرب ، كذلك حدثنا ولاد النحوي ، عن المصادري ، عن أبي عبيدة ، وكان معنى ذلك : أن من بلغت حاله من ترك الغزو والامتناع من النفقة في سبيل الله كما قد كانت الأنصار عليه ، ثم همت بخلافه ، هلاك .
[ ص: 101 ] ومثله ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4686 - كما قد حدثنا علي بن شيبة ، أخبرنا ، حدثنا روح بن عبادة ، عن مالك بن أنس ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أبي هريرة إذا سمعت الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم .
[ ص: 102 ]
4687 - وكما قد حدثنا ، حدثنا أبو أمية ، حدثنا خالد بن مخلد القطواني ، عن مالك بن أنس ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وكان ذلك على الهلاك في الدين لا فيما سواه . أبي هريرة
ثم نظرنا فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراد بهذه الآية عندهم ، مما لم يذكروا فيه أن نزولها كان فيه كما ذكره أبو أيوب في حديثه الذي ذكرناه عنه .
فوجدنا أحمد بن الحسن الكوفي قد حدثنا ، قال : سمعت يقول : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : قيس - وقتل خاله - : يا أمير المؤمنين ، إن قوما يزعمون أن خالي ممن ألقى بيده إلى التهلكة ، قال : بل هو من الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لعمر . قال رجل
قال : ولم يذكر في هذا الحديث السبب الذي قيل لخاله من أجله ما قيل ، غير أنا قد أحطنا علما أنه من أسباب القتال في سبيل الله . أبو جعفر
[ ص: 103 ] ووجدنا قد حدثنا ، حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، عن شعبة أبي إسحاق : أحمل على الكتيبة في ألف بالسيف من التهلكة ؟ قال : لا إنما التهلكة أن يذنب الرجل الذنب ، ثم يلقي بيديه يقول : لا يغفر لي للبراء . أن رجلا قال
ووجدنا محمد بن زكريا أبا شريح قد حدثانا قالا : حدثنا وابن أبي مريم ، حدثنا الفريابي ، عن قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، ابن عباس : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : أنفقوا في سبيل الله ، ولا تمسكوا النفقة في سبيل الله فتهلكوا .
ووجدنا قد حدثنا ، حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، عن سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن أبي صالح ، قال : ابن عباس . ينفق في سبيل الله وإن لم يكن له إلا مشقص
[ ص: 104 ] قال : يريد أنه ينفق في سبيل الله من قليل المال ، كما ينفق من كثيره على التحذير منه إياه ، أن يترك ذلك فيدخل في الوعيد الذي قد ذكرنا . أبو جعفر
ووجدنا قد حدثنا ، حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، عن سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن سليمان ، قال : أبي وائل في تأويل هذه الآية في النفقة حذيفة ، قال قال : فحدثت به شعبة يونس ، فقال : رحم الله الحسن ، ما قال شيئا إلا وجدت له أصلا .
ووجدنا فهدا قد حدثنا ، حدثنا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن شيبان [ ص: 105 ] النحوي ، عن منصور ، عن أبي صالح مولى أم هانئ ابن عباس وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، قال : لا يقولن أحدكم إني هالك لا أجد شيئا إن لم يجد إلا مشقصا ، فليجاهد به في سبيل الله عز وجل . في قوله عز وجل :
فكل هؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار يخبرون أن التهلكة المذكورة في الآية التي تلونا ليست في لقاء العدو بالقتال الذي ليس مع من لقيهم من الطاعة ما لا يؤمن عليه منهم قتلهم إياه ، وأنه في فعله ذلك غير مذموم فيه .
فقال قائل : كيف تقبلون هذا وقد رويتم في تأويل هذه الآية خلافه ؟ .
فذكر ما قد حدثنا فهد بن سليمان وهارون بن كامل جميعا قالا : حدثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ، عن ابن شهاب أن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري ، أخبره دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده [ ص: 106 ] يستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى ، وهو على جند من الأجناد ، فأرسل إليه عمرو بن العاص عمرو فرده وقال له عمرو : إن الله عز وجل يقول إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وقال : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . أنهم حاصروا
قال : فهذا قد جعل لقاء العدو بمثل ما طلب ذلك الرجل لقاءهم عليه من التهلكة . عمرو بن العاص
وكان جوابنا له في ذلك أن هذا الذي كان من عمرو ليس فيه إخبار عن السبب الذي فيه نزلت الآية ، وحديث أبي أيوب فيه الإخبار عن السبب الذي فيه نزلت ، وفي خبر أبي أيوب التوقيف على السبب الذي فيه نزلت وهم ، فلم يعلموا نزولها ، ولا السبب الذي أريد بنزولها فيه إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوته إياها عليهم وبإخباره إياهم السبب الذي نزلت فيه ، وعمرو بن العاص قد يحتمل أن يكون ما قاله مما في حديثه الذي رويناه عنه كان ما تأولها عليه ، مما هو له واسع ، إذ كانت محتملة لما تأولها عليه ، ولو وقف على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يخالف ذلك لتمسك به ، ولرد تأويله إليه ، ولم يقل في تأويلها خلافه ، والذي يكون ممن يطلب في قتال العدو ، وتأول في حديث [ ص: 107 ] عمرو هذا مما يطلب به النكاية في العدو ، وصاحبه محمود عليه ، والله أعلم الذي أراده - رضي الله عنه - في الحديث الذي رويناه عنه في هذا الباب حتى تلا من أجله الآية التي تلاها ، وهي : عمر بن الخطاب الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وهي أجل المراتب وأعلاها .
وقد كان من جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة مثل ذلك .
كما قد حدثنا ، قال : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا أحمد بن خالد الوهبي ، عن ابن إسحاق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن ، قال : حدثني أبيه الذي أرضعني وكان أحد أبي بني مرة ، قال : وأصحابه رضي الله عنهم فرأيت جعفر بن أبي طالب جعفرا حين لاحمه القتال اقتحم على فرس له شقراء ، ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل ، فكان أول رجل عقر في سبيل الله يومئذ . شهد مؤتة مع
قال : وذلك كان منه بحضرة من بقي من الأمراء الذين كانوا معه وهو بحضرة أبو جعفر عبد الله بن رواحة وبحضرة من خلفه في القتال ، وهو خالد بن الوليد الذي حمده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسماه لذلك [ ص: 108 ] سيف الله ، وبحضرة من كان سواهما من المسلمين ذلك منه ، ولم ينكروه عليه .
ومما نحيط علما به : أنه قد تناهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله فلم ينكره عليه ، ولم ينه المسلمين عن مثله ، فدل ذلك أن هذا الفعل من أجل الأفعال وأن الثواب عليه من أعظم الثواب من الله عز وجل ، وأن تأويل الآية التي تلوناها كما رويناه عن أبي أيوب في تأويلها ، لا كما سواه مما يخالف ذلك ، والله نسأله التوفيق .