فصل
في الإسلام وضده [ ص: 218 ] فصل
في الإسلام وضده
قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضع أن كما قال تعالى: الإسلام هو الاستسلام لله وحده، فهو يجمع معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، ورجلا سلما لرجل أي خالصا له، ليس لأحد فيه شيء. وإنه يستعمل لازما ومتعديا، فالأول كقوله: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ، وقوله: وأمرت أن أسلم لرب العالمين ، وقوله: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها إلى قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه . وهو هذا الإسلام الذي هو الاستسلام لرب العالمين.
وقد يستعمل متعديا في مثل قوله: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وفي قوله: بلى من أسلم وجهه لله . فهنا لما كان مقيدا بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، فلا بد مع ذلك من الإحسان، ليكون [ ص: 220 ] عمله صالحا خالصا لله.
وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله- إذ إسلام الوجه لله وهو محسن يستلزم أصل الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبه منافقا محضا، فإن المنافق المحض لا يكون مسلما لرب العالمين ولا مسلما وجهه لله، لكن قد شارك أصحابه في الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه في المسند : أحمد وكذلك حديث "الإسلام علانية، والإيمان في القلب ". جبريل . فصاحبه قد يكون معه أصله لا كماله. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبة أو رهبة من الخلق ولم يسلم لله، وهذا قد يكون منافقا محضا.
وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يظهر صاحبه أنه أسلم لله، قال تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الآية ، وكذلك قال في قصة لوط: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين . وكذلك حديث الصحيح : سعد بن أبي وقاص سعد مما أعطى، فقلت: ما لك [ ص: 221 ] عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنا، فقال: "أو مسلما" مرتين أو ثلاثا، ثم قال: "إني لأعطي الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، أعطيه لما في قلبه من الهلع والجزع " أو كما قال. لما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالا ولم يعط رجالا كان أعجب إلى
فامرأة لوط كانت منافقة كافرة في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها، ولهذا عذبت بعذاب قومها. فهذه والأعراب قد نفى الله عنهم الإيمان بقوله حال المنافقين الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مستسلمين له في الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. لم تؤمنوا ، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم قال: ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . و"لما" ينفى بها ما يفوت وجوده وينتظر وجوده، فيكون دخول الإيمان في قلوبهم منتظرا مرجوا، وقد قال لهم: وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا وظاهره أنهم إذا أطاعوه في هذه الحال أثيبوا على الأعمال. ثم قال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .
وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يصل إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: . فسلب الإيمان عنهم لا يقتضي سلب هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يصل بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع [ ص: 222 ] أجزاء الإيمان كان كافرا. " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة، أو من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "
وقد روي عن قال : "القلوب أربعة: قلب أغلف، فذاك قلب الكافر؟ وقلب مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلب أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها قيح ودم ". وفي رواية: "فأي المادين غلب كان الحكم له ". وفي رواية: "وقلب فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". حذيفة