[ ص: 189 ] مسألة
فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه [ ص: 190 ] [ ص: 191 ] بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات ، ويحب العفو عن أهل الجنايات ، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق ، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم ، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم ، في قوتي النفس العلمية والعملية ، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة ، ولهذا قال فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه ، فهو يفعله لما فيه من المحبة له ، لا لله ، ولا لغيره من الشركاء أبو داود : طلبت هذا العلم -أو قال- : جمعته لله؟ فقال : لله عزيز ، ولكن حبب إلي أمر ففعلته . للإمام أحمد بن حنبل
وهذا حال أكثر النفوس ، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق ، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد ، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس ، فهو يفعل هذه الأمور : لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق ، ولا يطلب مدح أحد ولا خوفا من ذمه ، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعم بها الحي ويلتذ بها ، ويجد بها فرحا وسرورا ، كما يلتذ بمجرد سماع الأصوات الحسنة ، وبمجرد رؤية الأشياء البهجة ، وبمجرد الرائحة الطيبة . [ ص: 192 ]
وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعم بمعرفة نفسه للأشياء التي تعرف بالباطن ، ويلتذ أيضا بشهود باطنه وإحساسه ، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه ، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها ، وكذلك في أفعاله وحركاته ، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه ، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه ، ويلتذ بالجود والإعطاء ، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء ، كما يذكر عن أنه قال : لقد حبب إلي العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه . المأمون
فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم ، كما كانت تكون في أهل البادية ، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعم به الحي وينتفع به ويلتذ في الحال .
ولا يقال : إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة ، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه ، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع ، ويستدفع به مضرة الجوع ، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات ، ويستجلب لها بها لذات .
ولهذا يقال : اشتفت نفسه ، وشفيت صدري ، فيجد شفاء في صدره ، كما يجد شفاء في جسمه بزوال المرض وحصول العافية .
وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر ، وهي التي أدرك حسنها من قال : إن العقل يقبح ويحسن ، ومن قال : إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولة : إما بالبديهة وإما بالنظر ، أو معلومة بالشرع . [ ص: 193 ]
ولقد صدق في قوله : إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها ، وصدق أن ذلك قد يدرك بالعقل ، وقد يدرك بالشرع .
وقد غلط الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه ، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضا ، فإن ذلك أمر محسوس .
والثاني غلط حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل ، وأن الحسن والقبح ليس إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي ، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه ، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه ، ولكن غلط في ظنه أن الحسن والقبح العقليين صادرين عن ذلك ، ولم يغلط كل الغلط ، فإن الحسن والقبح الذي يدرك بالحس وبالعقل وبالشرع ، وبالبصر والنظر والخبر ، بالمشهور الظاهر وبالباطن ، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي هو في الأصل من جنس واحد ، فإن كلا يعلم بذلك ويثبت به ما لا يعلم بالآخر ويثبت به .
وهذه الطرق الثلاثة : السمع ، والبصر ، والعقل ، هي طرق العلم : فالبصر -وهو المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة والمنافرة ، والمنفعة والمضرة العاجلة .
والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يقصر الشهود عن إدراكه من منفعة ذلك ومضرته في الدار الآخرة .